انفجار بيروت.. القصة الكاملة

خمس سنوات مرت على الحدث الذي غيّر وجه العاصمة اللبنانية، بيروت، انفجار المرفأ غيّر بين لحظة وأخرى، وفي ثوانٍ معدودة وجه العاصمة، لتتحول مناطق واسعة إلى أثار أشبه بساحة حرب؛ مبانٍ مدمرة، وسيارات محطمة، وشوارع غطاها الركام والزجاج المتناثر، ولحظات من الصدمة وعدم التصديق، تبعتها حالة غضب عارم على خلفية إحدى أسوأ الكوارث في تاريخ بيروت الحديث.
لا تُنسى مشاهد الصوامع المدمّرة في مرفأ بيروت عقب الانفجار الذي وقع في 4 آب/أغسطس 2020، انفجار اعتبر أحد أقوى التفجيرات غير النووية في التاريخ، مخلفا مقتل ما لا يقل عن 218 شخصاً، وإصابة أكثر من 6500 آخرين، وملحقاً دماراً هائلاً وخسائر بأحياء العاصمة قُدرت بمليارات الدولارات.
ماذا حدث في ذلك اليوم؟
حريق يندلع في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، تلاه تصاعد دخان كثيف، لم يكن يعلم أحد أن النيران كانت تلتهم مواد شديدة الاشتعال داخل المرفأ، ليقع بعدها بقليل الانفجار الكبير الذي سمع دويه في أرجاء العاصمة ومحيطها، وشعر به سكان مناطق بعيدة حتى جزيرة قبرص عبر البحر المتوسط.
مزيج بين مواد خطرة، وسريعة الاشتعال خُزنت في العنبر المشؤوم؛ شحنة ضخمة تصل إلى 2750 طنًا من نيترات الأمونيوم مخزنة منذ عام 2014 دون إجراءات سلامة، ومواد قابلة للاشتعال؛ مثل: المفرقعات، ومواد كيميائية بينها الميثانول والزيوت، مزيج قاتل هيأ الظروف المثالية لوقوع كارثة؛ فالمفرقعات والمواد المشتعلة كصاعق أدى إلى اشتعال نيترات الأمونيوم وحدوث الانفجار الهائل.
حصيلة مأساوية خلفها الانفجار، أدت إلى مقتل نحو 218 شخصا على الفور بينهم كوادر طبية، ورجال إطفاء كانوا يكافحون الحريق الأولي، بالإضافة إلى إصابة ما يزيد عن 6500 آخرين بجروح متفاوتة، ناهيك عن الأضرار الجسيمة التي لحقت بقطاعات واسعة من بيروت، حيث تهدمت أو تضررت 77 ألف شقة سكنية ما أدى إلى تشريد 300 ألف شخص باتوا بلا مأوى بين ليلة وضحاها، وقُدرت الخسائر المادية المباشرة بأكثر من 3.8 مليارات دولار جراء الأضرار المادية وفق تقرير للبنك الدولي، في حين قدّرت الخسائر الإجمالية بأكثر من 15 مليار دولار في مختلف القطاعات.
إلى جانب الخسائر في الأرواح، والخسائر المادية، نال الانفجار من صوامع القمح الضخمة في المرفأ، وانهرت بعد امتصاصها جزءًا كبيرًا من قوة الانفجار حامية ما تبقى من غرب بيروت، وتحولت إلى هياكل اسمنتية مشوهة ظلت كشاهد صامت على المأساة، وتعدى الأمر إلى تلوث بيئي نتيجة انبعاث سحابة ضخمة من الغبار والغازات السامة (غازات نيتروجينية وأخرى) وانتشرت الأنقاض الملوثة في الهواء والمياه، قُدر أنها تحتاج لجهود تنظيف بأكثر من 100 مليون دولار.
ما قبل الانفجار.. شحنة قاتلة وإهمال بيّن
لا يمكن اعتبار انفجار مرفأ بيروت حادثا عرضيا، فالتحقيقات والوثائق أثبتت أن الإهمال والفساد لعبا دورًا أساسيًا في وقوع هذه الكارثة، وجذور الانفجار بدأت قبل سنوات.
2750 طنًا من نيترات الأمونيوم القاتلة وصلت على متن سفينة شحن تحمل اسم "روسوس" إلى مرفأ بيروت عام 2013، وحسب الروايات الرسمية فالسفينة كانت في طريقها من جورجيا إلى موزمبيق، لكنها توقفت في بيروت ولم تغادرها، وصودرت الشحنة عام 2014 بسبب مشاكل قانونية، وخُزنت في العنبر 12 بالمرفأ، لتبقى هناك ست سنوات كاملة دون أي خطة واضحة للتخلص منها، أو تأمينها بشكل صحيح.
لكن اللافت أنه وخلال تلك السنوات، قامت عدة جهات أمنية وإدارية في لبنان بإرسال رسائل تحذيرية إلى السلطات القضائية والحكومية تنبّه لخطورة بقاء هذه المواد في قلب العاصمة، فالتحقيقات الحقوقية تُشير إلى أن مسؤولين كانوا على علم تام بالمخاطر، ولم يتخذوا إجراءات حاسمة، وتراكمت المذكرات والتقارير حول هذه الشحنة القاتلة دون نتيجة تُذكر.
وما زاد الطين بِلة أن نيترات الأمونيوم خُزّنت مع مواد قابلة للاشتعال والتفجير في نفس العنبر، حيث أقرت أحد التقارير للأجهزة الأمنية اللبنانية وجود "الميثانول والزيوت وأطنان من المفرقعات" في العنبر في نفس العنبر ما جعل تلك التوليفة من المواد الخطرة قنبلة موقوتة، وحسب خبراء متفجرات، فإن خلط مواد مثل نيترات الأمونيوم بمواد أخرى قابلة للاشتعال يخلق سلسلة تفجيرية، فتعمل الانفجارات الصغيرة (كالمفرقعات) كصواعق تُطلق الانفجار الكبير، وخلاصة الأمر، أن ما حدث هو نتيجة مباشرة لسنوات من سوء التخزين، وغياب أدنى معايير السلامة.
ما بعد الانفجار.. صدمة وغضب
حادثة المرفأ شكلت صدمة جماعية هزّت اللبنانيين، ففي الأيام والأسابيع التي تلت الرابع من آب، عاش لبنان بكل مكوناته مزيجًا من الحزن العميق والغضب المتقد، وبذات الوقت ووسط الركام ظهرت مشاهد أمل وتكافل إنساني، قادها جيل من الشباب.
بعد انقشاع سحابة الدخان العملاقة، عمّت حالة من الحزن والغضب أرجاء البلاد، ونظّم المواطنون مسيرات في شوارع بيروت رافعين شعار "كلن يعني كلن"، في إشارة إلى إدانة لكل المسؤولين عن هذه الكارثة، مطالبين بمحاسبتهم، وفي احتشاد الآلاف في مظاهرات غاضبة قرب موقع المرفأ وفي ساحة الشهداء، تعبير صارخ عن السخط الشعبي لم يجد رئيس الحكومة - آنذاك - حسان دياب ووزراؤه خيارًا سوى الاستقالة بعد أقل من أسبوع على الانفجار في محاولة لامتصاص غضب الشارع.
لكن على الجانب الآخر هبّ آلاف المتطوعين من الشباب إلى مواقع الدمار للمساعدة في إزالة الأنقاض، وتقديم الإسعاف الجرحى، وتوزيع الطعام والمياه على المتضررين، كما أن كارثة المرفأ حظيت بتضامن دولي واسع النطاق، حيث سارعت دول عربية وغربية إلى إرسال فرق إنقاذ ومساعدات طبية وإنسانية عاجلة.
على وجه الخصوص أخذت فرنسا زمام المبادرة، فبادر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بزيارة موقع الانفجار بعد يومين فقط، متعهدا بالوقوف إلى جانب الشعب اللبناني، وعُقد العديد من المؤتمرات الدولية لدعم الدولة اللبنانية، وتمكنت من جمع تعهدات بأكثر من 370 مليون دولار كمساعدات إغاثية فورية.
عقبات في طريق الحقيقة والعدالة
في الشهور الأولى بعد الكارثة، انطلق التحقيق المحلي بقيادة القاضي، فادي صوان، الذي سارع إلى توجيه الاتهام لعدة مسؤولين كبار، بينهم وزيران سابقان، وثالث كان على رأس عمله وقت وقوع الانفجار، ووجه لهم تهم بالإهمال الذي أدى إلى قتل مئات الأشخاص.
بدا أن عجلة العدالة بدأت بالدوران، لكن سرعان ما اصطدم القاضي صوّان بحائط الحصانات السياسية؛ فبمجرد اقترابه من أسماء نافذة، انفضت القيادات الضالعة في الحكم ضد التحقيق، وبحلول شهر شباط 2021، نُحيّ القاضي صوان عن الملف بقرار قضائي إثر دعاوى ارتياب مشروع تقدّم بها متهمون اعترضوا على استدعائهم.
تولى القاضي، طارق بيطار، المهمة خلفًا لصوّان، وبرهن بيطار منذ البداية جرأة غير معهودة في القضاء اللبناني، فاستدعى وزراء، ونوابًا، ومسؤولين أمنيين بارزين للاستجواب، وأصدر مذكرات توقيف بحق من تخلفوا عن الحضور، لكن الطبقة السياسية تدخلت مرة أخرى؛ حيث توالت سيل من دعاوى كفّ اليد ضد بيطار، مدعومةً من قوى سياسية ثقيلة الوزن اعتبرت أن تحقيقه مسيسًا، وانتقائيًا.
وفي تشرين الأول/أكتوبر 2021 بلغ التوتر أشده حين اندلعت اشتباكات مسلحة في منطقة الطيونة ببيروت أثناء تجمع احتجاجي مناهض لبيطار دعت إليه أطراف معترضة على التحقيق، أدى لسقوط عدد من القتلى والجرحى، في مشهد أعاد لأذهان اللبنانيين شبح الحرب الأهلية، وأظهر خطورة تسييس القضية.
نجحت الضغوط السياسية والقضائية في تعطيل العدالة، ووقف التحقيق لمدة طويلة، فمنذ أواخر 2021 وحتى مطلع 2023، عُلّقت مهام القاضي بيطار عمليًا نتيجة عشرات الدعاوى القضائية التي قدّمها المدعى عليهم ومناصريهم، متذرعين بالحصانة النيابية، أو بطلب نقل الدعوى إلى قاضٍ آخر.
أدى هذا التعطيل الممنهج إلى جمود الملف تمامًا، ولم يُعقد أي اجتماع قضائي فعال، ولم يُحرّك أي ادعاء جديد خلال أكثر من سنة، وبحلول الذكرى الثانية ثم الثالثة للانفجار، كان المشهد قاتمًا؛ لا محاكمات، ولا توقيفات جدية، ولا إجابات على أسئلة الأهالي المفجوعين.
أمام هذا الانسداد الداخلي، ارتفعت أصوات محلية ودولية تطالب بإجراء تحقيق دولي مستقل تحت إشراف الأمم المتحدة، حيث ناشدت عائلات الضحايا، وجماعات المجتمع المدني مرارًا للاستعانة بخبرات دولية لضمان الشفافية، ومحاسبة من يثبت تورطهم، خصوصًا في ظل شبه حصانة يتمتع بها كبار المسؤولين في الداخل
وفي الذكرى الثانية للكارثة عام 2022 أصدر خبراء أمميون بيانًا يطالبون فيه بتحقيق دولي، معتبرين أن التحقيق المحلي فشل في تحقيق العدالة، لكن هذه الدعوات قوبلت برفض رسمي من السلطات اللبنانية التي اعتبرتها مساسًا بالسيادة، ليستمر مسلسل المماطلة القضائية في ملف المرفأ وسط خيبة وغضب الأهالي.
في الذكرى الخامسة.. أين أصبحت بيروت وأين العدالة الآن؟
بعد دخول لبنان العام الخامس من كارثة المرفأ، شهدت البلاد بعض التطورات التي بعثت أحيت الأمل بأن الحقيقة قد ترى النور، ورغم ذلك، لا تزال المحصلة الفعلية على الأرض ضبابية، أجزاء من بيروت أُعيد إعمارها، وأخرى بقيت على حالها، ومحاسبة المسؤولين بقيت وعدًا لم يتحقق بعد.
خلال عامي 2022 و2023، تغيرت بعض الوجوه في السلطة بلبنان على وقع الأزمة الاقتصادية، والضغط الشعبي المستمر، وفي مطلع 2023 تم انتخاب قائد الجيش السابق، جوزيف عون، رئيسًا للجمهورية، وكُلف القاضي والدبلوماسي السابق، نواف سلام، برئاسة الحكومة، في خطوة وُصفت بأنها اختيار لإدارة أكثر استقلالية عن زعماء الطوائف التقليديين.
رفعت القيادة الجديدة شعارات إصلاحية، وتعهدت بإعادة إحياء ملف التحقيق في حادثة المرفأ، وتحقيق العدالة، وأكد رئيس الحكومة سلام في تصريح له أنه "لن تكون هناك أي تسوية سياسية في قضية المرفأ قبل تحقيق المحاسبة".
ونتيجة لإرادة النخبة السياسية الجديدة في البلاد استأنف القاضي، طارق بيطار، تحقيقاته في أوائل 2025 بعد أكثر من عام من الجمود، وفي خطوة مفاجئة، استخدم بيطار تفسيرًا قانونيًا جريئًا لاستعادة زمام المبادرة في الملف، فقام باستدعاء مسؤولين كبار بمن فيهم النائب العام التمييزي نفسه، وقضاة يشتبه بتدخلهم في القضية، كما أصدر دفعة جديدة من مذكرات التوقيف بحق شخصيات أمنية وسياسية كانت قد امتنعت عن الحضور سابقًا.
هذه الإجراءات سلطت الأضواء على القضية مرة أخرى، وأعادت آمال عائلات الضحايا من جديد، وكشف مصدر قضائي أن بيطار بات قريبًا من إنجاز تقريره النهائي الذي يتجاوز 1200 صفحة، ويهدف إلى إصدار القرار الاتهامي قبل نهاية هذا العام 2025، كما أن القاضي بيطار ينتظر نتائج تعاون دولي في التحقيق، بما في ذلك تقرير فني أخير من فرنسا حول أسباب الانفجار، هذه التطورات أثارت تفاؤلًا حذرًا لدى الأهالي.
والآن..
انفجار مرفأ بيروت هي حكاية وجع وأمل في آن واحد؛ وجع شعب دفع ثمناً مروعاً للإهمال والفساد، وأمل في أن تتحقق العدالة يومًا ما، وتنصف أرواح الضحايا، وتداوي شيئًا من جراح البلاد.
خمس سنوات مرت، وما يزال السؤال المطروح؛ هل يصل لبنان يوماً إلى الحقيقة الكاملة، ومعاقبة المسؤولين عن هذه الكارثة؟ الإجابة لم تتضح بعد، وبانتظار تقرير القضاء.