عاصفة رسوم ترامب تشعل غضبًا عالميًا

أثار إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أبريل 2025 فرض رسوم جمركية جديدة موجة من ردود فعل دولية غاضبة وإجراءات مضادة. فقد انتقدت قوى اقتصادية كبرى - مثل الصين والاتحاد الأوروبي وكندا والهند واليابان - هذه الرسوم سياسيًا واقتصاديًا، محذرة من أنها قد تؤدي إلى حرب تجارية عالمية جديدة تمتد تداعياتها إلى الشرق الأوسط وتضر بالاقتصاد العالمي كله.
ترامب يفجّر حرب رسوم جمركية
في خطوة قلبت الطاولة على نظام التجارة العالمي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن فرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 10% على جميع الواردات إلى الولايات المتحدة، إضافة إلى تعريفات أعلى تستهدف بعض الدول بشكل خاص. هذا القرار الأحادي وُصف بأنه أكبر تغيير في قواعد التجارة الدولية منذ عقود، وأتى تحت شعار "حماية الاقتصاد الأمريكي" من "استغلال" الشركاء التجاريين. لكن سرعان ما اصطدمت هذه الرسوم الجمركية بردود فعل ساخطة حول العالم، حيث اعتبرتها دول كبرى حربًا تجارية مفتوحة قد تشعل مواجهة اقتصادية شاملة.
ترامب دافع عن خطوته قائلاً إن بلاده "تتعرض للنهب" منذ سنوات عبر اتفاقيات تجارية غير عادلة، وإن هذه الرسوم ستعيد التوازن وتجبر الآخرين على التفاوض. وأطلق على يوم إقرار التعريفات اسم "يوم التحرير" اقتصاديًا. لكن أسواق المال العالمية كان لها رأي آخر، إذ هوت المؤشرات في وول ستريت وأوروبا وآسيا بشكل حاد فور صدور القرار، مما يعكس مخاوف المستثمرين من اندلاع حرب تجارية عالمية لا رابح فيها.
الصين: "لا فائز في الحرب التجارية"
الصين تصدرت قائمة الدول المستهدفة برسوم ترامب الجديدة، حيث بلغ إجمالي التعريفات على السلع الصينية ما يفوق 50%. وردّت بكين بلهجة حازمة على لسان وزارة التجارة التي دعت واشنطن إلى التراجع فورًا، محذّرةً من أن الخطوة "تهدد النمو الاقتصادي العالمي وتضر بمصالح الولايات المتحدة نفسها وسلاسل الإمداد الدولية". وأكدت الوزارة أنه "لا يخرج أحد منتصرًا من حرب تجارية، ولا مستقبل للحماية" – في إشارة إلى أن التصعيد سيؤذي الجميع.
لم تكتفِ الصين بالكلام، بل توعّدت بإجراءات انتقامية سريعة. وبالفعل، أعلنت بكين عن رسوم مضادة بنسبة 34% على كل الواردات الأمريكية إليها، إضافة إلى قيود على تصدير معادن نادرة إستراتيجية تستخدمها الصناعات الأمريكية. هذا التصعيد المتبادل بين أكبر اقتصادين في العالم ينذر بتفاقم الحرب التجارية. وقد علّق متحدث باسم الخارجية الصينية بصورة لاذعة على انهيار الأسواق الأمريكية بقوله إن "السوق قالت كلمتها" في رفض رسوم ترامب – في إشارة إلى أن تراجع الأسهم الحاد هو حكم السوق السلبي على تلك السياسة.
سياسيًا، حاولت الصين الظهور بمظهر المدافع عن النظام التجاري متعدد الأطراف. ودعت بكين إلى "مشاورات متكافئة" وحوار متوازن لحل الخلاف، بدلًا من سياسة فرض الأمر الواقع. وفي الداخل الصيني، حثّت جمعيات الصناعات المختلفة الشركات على تنويع أسواق التصدير بعيدًا عن السوق الأمريكية، تحسبًا لطول أمد النزاع. بكين بذلك ترسل رسالة أنها مستعدة للصمود في معركة الرسوم مهما تصاعدت، خصوصًا أنها اعتادت موجات سابقة من تعريفات ترامب في سنوات ماضية.
اقتصاديًا، قد تتجه الصين أيضًا إلى استخدام أوراق أخرى مثل تخفيض قيمة عملتها لتعويض أثر الرسوم، ما يفتح جبهة أخرى في المواجهة. وإجمالًا، الموقف الصيني يجمع بين لهجة صارمة ضد الحمائية الأمريكية واستعداد ميداني لخوض حرب تجارية مطولة إذا فرضت عليها.
أوروبا: إدانة جماعية وتهديد بالرد
الاتحاد الأوروبي وشركاؤه في أوروبا عبّروا عن غضب وقلق عارمين من الرسوم الأمريكية، واصفين إياها بأنها "خاطئة من الأساس" وتشكل "ضربة كبرى للاقتصاد العالمي". في بروكسل، دعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى تجنّب التصعيد، لكنها شددت في الوقت نفسه على أن أوروبا مستعدة للرد بالمثل للدفاع عن مصالحها. وقالت فون دير لاين إن هذه الرسوم تمثّل صدمة للاقتصاد العالمي وستمس ملايين الناس، مطالبةً واشنطن بالانتقال من أسلوب المواجهة إلى التفاوض قبل فوات الأوان.
على مستوى العواصم الأوروبية، جاءت الردود حادة. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصف قرار ترامب بأنه "وحشي وغير مبرر"، واقترح بشكل غير مباشر تعليق الاستثمارات الأوروبية في الولايات المتحدة حتى تتضح الصورة ويتم التراجع عن النهج الحالي. وقال ماكرون غاضبًا: "يجب ألا نستبعد أي إجراءات، كل الخيارات مطروحة"، ملمّحًا إلى احتمال استهداف مصالح أمريكية في أوروبا إن استمر التصعيد. وفي إسبانيا، شنّ رئيس الوزراء بيدرو سانشيز هجومًا لفظيًا لاذعًا على "الحمائية الأمريكية"، قائلًا إنها "تضر بمصالح الملايين على جانبي الأطلسي" وإن إدارة ترامب "لا تفرّق بين صديق وعدو وتمضي ضد الجميع وكل شيء". وأضاف ساخطًا: "العودة إلى حمائية القرن التاسع عشر ليست طريقة ذكية لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين".
حتى ألمانيا، التي تقود أكبر اقتصاد أوروبي، خرج مسؤولوها عن تحفظهم. المستشار الألماني (في الأيام الأخيرة له بالمنصب) اعتبر رسوم ترامب "خطوة أحادية خاطئة تمامًا" و*"هجومًا على نظام التجارة العالمي الذي صنع الازدهار للجميع"* – وهو نظام ساهمت أمريكا نفسها في بنائه. وفي إيطاليا وبقية الدول الأوروبية، ساد إنذار اقتصادي خوفًا على الوظائف والصناعات، ما دفع القادة هناك للمطالبة بوحدة الصف الأوروبي في الرد على واشنطن.
عمليًا، بدأ الاتحاد الأوروبي التحضير لحزمة رسوم جمركية انتقامية على الواردات الأمريكية، من المتوقع إعلانها منتصف أبريل. وتهدف بروكسل إلى استهداف منتجات رمزية أمريكية (مثل عصير البرتقال و الجينز و دراجات هارلي ديفيدسون النارية) للضغط سياسيًا على واشنطن. كما أن رسومًا أمريكية سابقة بنسبة 25% على واردات السيارات الأوروبية دخلت حيّز التنفيذ بداية أبريل، ولم يرد الاتحاد عليها بعد في انتظار تنسيق رد شامل. ويبحث صناع القرار الأوروبيون أيضًا توسيع نطاق الرد ليشمل خدمات ومنتجات تقنية أمريكية إن استمرت الأزمة، وإن كان ذلك خيارًا أخيرًا. هذا التصعيد المدروس يرافقه في الوقت نفسه باب خلفي للحل: الأوروبيون يفضلون الجلوس إلى طاولة المفاوضات وتجنب "حرب تجارية شاملة"، لكنهم يلوّحون بالعصا الغليظة كي لا تُفسّر رغبتهم في الحوار كضعف.
كندا: "سنرد والصمود هو الحل"
جاء رد فعل كندا، جارة أمريكا وحليفتها الوثيقة، غاضبًا وإن كان أقل صخبًا إعلاميًا. رئيس الوزراء الكندي مارك كارني صرّح أن الولايات المتحدة "تخلت عن دورها التاريخي كحامية للنظام الاقتصادي العالمي القائم على التعاون"، مؤكدًا أن كندا "ستقاتل هذه الرسوم بإجراءات مضادة" وستعمل على بناء "أقوى اقتصاد في مجموعة السبع" لمواجهة التحديات. ورأى كارني أن المشهد الاقتصادي العالمي "اختلف جذريًا اليوم عمّا كان عليه بالأمس" بسبب خطوة واشنطن الصادمة.
ورغم أن كندا نجت من الرسوم الأمريكية الجديدة الشاملة (حيث لم تشملها الزيادة الأخيرة البالغة 10% بفضل اتفاقية USMCA للتجارة الحرة)، فإنها لا تزال تواجه رسومًا أمريكية مرتفعة فرضتها إدارة ترامب في وقت سابق من العام على صادرات الصلب والألمنيوم وقطاع السيارات بنسبة 25%. وهذه التعريفات السابقة لم يرفعها ترامب بل بررها بشكل مستفز بأنها "عقاب لكندا على عدم بذلها ما يكفي لوقف تدفق مخدر الفنتانيل" إلى أمريكا. هذا الربط بين التجارة وقضايا أمنية أغضب أوتاوا التي اعتبرته ذريعة واهية.
كندا أعلنت أنها لن تقف مكتوفة الأيدي. وعلى الفور كشفت الحكومة عن قائمة رسوم انتقامية ستفرضها على صادرات أمريكية إلى كندا تضاهي الضرر الواقع عليها. الصناعات الكندية – خاصة قطاع السيارات وقطع الغيار الذي يعتمد على السوق الأمريكي – دقّت ناقوس الخطر. وعبّر رئيس جمعية مصنعي قطع السيارات الكندية عن شعوره عند سماع الاستثناء المحدود لكندا بالقول: "كأننا تفادينا رصاصة لنجد أنفسنا في مسار دبابة!". هذا التشبيه يلخّص حالة القلق في كندا: فرغم الامتنان لعدم شمول التعريفات الجديدة جميع الصادرات الكندية، إلا أن الاقتصاد الكندي يظل في مرمى حرب الرسوم الجمركية الدائرة وقد يتلقى ضربة أقسى مع تصاعدها.
سياسيًا، تسعى أوتاوا للتنسيق مع أوروبا وآسيا للضغط جماعيًا على واشنطن، وتؤكد على أهمية وحدة الصف بين حلفاء أمريكا التقليديين في مواجهة النزعة الحمائية غير المسبوقة. ومع ذلك، تحافظ كندا على لهجة دبلوماسية تأمل بفتح حوار مع الإدارة الأمريكية لإزالة الرسوم المتبادلة واستعادة انسياب التجارة الطبيعية عبر حدودها الجنوبية.
الهند: تفاوض بدل المواجهة
بالنسبة لـ الهند، وهي قوة اقتصادية صاعدة، جاءتها رسوم ترامب بنسبة 26% على جميع صادراتها كصفعة غير متوقعة. برر ترامب هذه النسبة بأنها "تعرفة متبادلة مخفّضة" مقابل ما قال إنها تعريفات هندية تبلغ 52% على الواردات الأمريكية. وعلى الرغم من الصدمة الأولية، بدا الموقف الرسمي الهندي حذرًا ومائلًا إلى التهدئة. أعلنت وزارة التجارة الهندية أنها تدرس تأثير الرسوم الأمريكية بدقة، وصرّح مسؤول حكومي كبير بأن الوضع "خليط من الإيجابيات والسلبيات وليس نكسة كبيرة للهند". يوحي هذا التصريح بأن نيودلهي لا تريد تهويل الأمر، وربما تسعى لاحتواء الأزمة عبر التفاوض بدل التصعيد.
تركز الهند الآن على الحوار مع واشنطن سعيًا للتوصل إلى تسوية. وقد عملت الحكومة الهندية بالفعل في الأسابيع الأخيرة بهدوء على التفاوض لتخفيف وقع الرسوم، ويُقال إنها تدرس خفض بعض تعريفاتها المرتفعة على الواردات الأمريكية في قطاعات محددة كعرض مقايضة. فوفق تقارير، قد تخفّض الهند رسومها على واردات أمريكية بقيمة 23 مليار دولار (تشمل منتجات مثل المجوهرات والأدوية وقطع غيار السيارات) في محاولة لإرضاء إدارة ترامب وتقليص العجز التجاري، لكن لم يتم التوصل لاتفاق بعد.
أما اقتصاديًا، فقد سادت مخاوف في نيودلهي من تضرر قطاعات تصديرية حيوية. أبرز الخاسرين ستكون الإلكترونيات (حجم صادراتها للسوق الأمريكي حوالي 14 مليار دولار سنويًا) والأحجار الكريمة والمجوهرات (حوالي 9 مليار دولار)، إضافة إلى المنسوجات وخدمات تكنولوجيا المعلومات التي تساهم بقوة في تشغيل الأيدي العاملة الهندية. بالمقابل، تلقى قطاع الأدوية الهندي أنباء الرسوم ببعض الارتياح، إذ إن الأدوية – وهي من أكبر صادرات الهند للولايات المتحدة – مستثناة حتى الآن من التعرفة الجديدة. هذا الاستثناء مهم للهند لأنه يحمي جزءًا كبيرًا من دخلها التصديري ويمنحها ورقة تفاوض.
الهند إذن تختار نهجًا دبلوماسيًا؛ لم تهدد فورًا بإجراءات انتقامية كما فعلت الصين وأوروبا، بل أعلنت أنها ستعلّق أي رد لحين استنفاد مساعي الحوار. وربما تعوّل نيودلهي على علاقة استراتيجية أوسع تجمعها بواشنطن (لمواجهة نفوذ الصين إقليميًا) لضبط الخلاف التجاري. لكن إن سدت السبل، قد تجد الهند نفسها مضطرة للانضمام إلى موجة الردود العالمية بطريقة أو بأخرى، خاصة إذا طال أمد الرسوم وألحق ضررًا بالغًا بصادراتها وميزانها التجاري.
اليابان: صدمة في الأسواق وانتظار حذر
اليابان، الحليف التقليدي للولايات المتحدة، وجدت نفسها هي الأخرى في مرمى رسوم ترامب رغم روابطها القوية بواشنطن. فقد فرضت الإدارة الأمريكية تعريفات بنحو 24% على السلع اليابانية (بحسب التقارير)، ما أثار دهشة وامتعاض طوكيو التي لم تتوقع أن تُعامل معاملة الصين أو الآخرين. خرج رئيس الوزراء الياباني الجديد شيغيرو إيشيبا ليعبّر عن استغرابه قائلاً: "اليابان من أكثر الدول استثمارًا في أمريكا، فهل من المنطقي أن تُطبق [واشنطن] تعريفات موحدة على الجميع؟". هذا التساؤل العلني يعكس شعور اليابانيين بخيبة الأمل من استهدافهم رغم علاقتهم الخاصة بأمريكا.
وزير التجارة والصناعة الياباني وصف الرسوم بأنها "مؤسفة للغاية"، كاشفًا أن طوكيو تبذل جهودًا حثيثة لإقناع إدارة ترامب بإعادة النظر وعدم تطبيق التعرفة العالية على اليابان. وأوضح أنه أوصل رسائل شديدة اللهجة لنظرائه في واشنطن يؤكد فيها رفض بلاده لهذه الخطوات أحادية الجانب. لكن حتى الآن، لا إشارات إلى استثناء اليابان من الرسوم؛ مما وضع الاقتصاد الياباني أمام واقع جديد مقلق.
أسواق المال في طوكيو تفاعلت بقوة مع الحدث – بطريقة سلبية. فقد هوت مؤشرات الأسهم اليابانية بشكل حاد، حيث انخفض مؤشر نيكي القياسي حوالي 4% خلال التداول ووصل إلى أدنى مستوى له منذ ثمانية أشهر. هذا التدهور جاء بقيادة أسهم البنوك والصناعات الكبرى، مما جعل الأسبوع الماضي أسوأ أسبوع للبورصة منذ سنوات. وعلّق محللون اقتصاديون في طوكيو بالقول إن الأسواق دخلت "مياه مجهولة" وإن المستثمرين "يشدون الأحزمة استعدادًا لعاصفة قد تطول"، في إشارة إلى عدم اليقين حيال تداعيات حرب الرسوم على اقتصاد البلاد.
قطاع صناعة السيارات الياباني هو الأكثر تعرضًا للخطر في هذه المواجهة التجارية، باعتباره ركيزة الصادرات إلى أمريكا. وتقدر قيمة السيارات وقطعها المصدرة سنويًا للولايات المتحدة بحوالي 35 مليار دولار، أي قرابة نصف صادرات اليابان الصناعية لأمريكا. لذلك، أي رسوم بنسبة 24% تعني ارتفاع تكلفة السيارات اليابانية بشدة للمستهلك الأمريكي، مما يهدد تنافسية تويوتا وهوندا ونيسان وغيرها في سوقها الأساسي. وقدرت بنوك استثمار عالمية أن تأثير هذه الرسوم سيكون "كبيرًا" على الصناعة اليابانية، حيث قد تضطر الشركات إلى خفض الإنتاج أو تحمل خسائر سعرية للحفاظ على حصتها السوقية.
رغم كل ذلك، اختارت طوكيو نهج التروي. فلم تعلن اليابان بعد عن إجراءات انتقامية مباشرة، ربما تفاديًا لتفاقم الخلاف مع حليفها الأمني. بدلاً من ذلك، تستثمر اليابان في مسار دبلوماسي هادئ عبر قنوات خلفية وأمامية مع واشنطن أملاً في الحصول على إعفاء أو صفقة خاصة تقلل الضرر. وقد يكون لدى اليابان بعض أوراق الضغط غير العلنية، منها التهديد بتأثير هذه الأزمة على تعاون البلدين في ملفات سياسية وأمنية. لكن علنًا، الرسالة اليابانية حتى الآن هي: "نأسف ونتفاوض، ولا نريد التصعيد".
الشرق الأوسط: قلق اقتصادي وحسابات سياسية
رغم أن دول الشرق الأوسط لم تكن محور تركيز مباشر لرسوم ترامب، إلا أن تداعيات القرار عالميًا تفرض نفسها على اقتصاد المنطقة وسياساتها. شملت الرسوم الأمريكية الجديدة معظم دول العالم بما فيها الدول العربية، وإن كانت بنسبة الحد الأدنى (10%) لمعظمها. فعلى سبيل المثال، فُرضت رسوم 10% على صادرات دول الخليج مثل السعودية والإمارات ومصر والمغرب وغيرها إلى السوق الأمريكية. هذه الدول تربطها بالولايات المتحدة شراكات طويلة، وبعضها اتفاقيات تجارة حرة جزئية، لكن قرار ترامب جاء شاملًا بلا استثناءات تذكر خارج جيرانها المباشرين.
مع ذلك، رفعت واشنطن الرسوم بنسبة أعلى كثيرًا على بعض البلدان العربية الأخرى لأسباب مختلفة. فقد فُرضت تعريفات عقابية وصلت إلى 20% على الأردن (الذي يفرض بدوره رسومًا مرتفعة نسبيًا على الواردات الأمريكية)، وإلى 28% على تونس، و30% على الجزائر. بل إن الدول التي تشهد نزاعات واضطرابات كسوريا وليبيا والعراق كانت ضمن الأعلى رسومًا بنسبة 31% إلى 41%، ربما بحجة أنها تفرض هي نفسها تعريفات عالية أو كخطوة ذات طابع سياسي. ورغم أن حجم التجارة بين أمريكا ومعظم هذه الدول ليس ضخمًا، إلا أن هذه النسب تعني فعليًا إقصاء صادراتها المحدودة من السوق الأمريكية وزيادة عزلتها الاقتصادية.
من الناحية الاقتصادية البحتة، تقف دول الشرق الأوسط على المحك في حال تصاعدت الحرب التجارية العالمية. المنطقة تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط والغاز التي تتأثر بأسعار الطاقة العالمية. ومع تخوف الأسواق من تباطؤ الاقتصاد العالمي بسبب الرسوم، انخفضت أسعار النفط بشكل ملحوظ لتسجل أسوأ اسبوع لها منذ أشهر. هذا الانخفاض يوجّه ضربة مباشرة للدول النفطية الخليجية مثل السعودية والإمارات وقطر والكويت، حيث يقلص إيراداتها ويضغط على ميزانيتها التي كانت بدأت تتعافى مع ارتفاع الأسعار سابقًا. وإذا استمر التوتر التجاري وحدث ركود عالمي – لا قدر الله – في تراجع الطلب على النفط أكثر، مما قد يعيد شبح العجز المالي إلى دول الخليج ويعرقل مشروعاتها التنموية.
أما الدول غير النفطية في المنطقة، فستشعر بالحرارة أيضًا. دول مثل مصر والمغرب وتونس والأردن تعتمد على صادرات صناعية وزراعية للسوق الأمريكية وأوروبا. ومع فرض رسوم أمريكية جديدة، ستواجه منتجاتها منافسة أشد وارتفاعًا في التكلفة يجعلها أقل جاذبية للمستورد الأمريكي. على سبيل المثال، قطاع الملابس والمنسوجات المصري والأردني الذي كان يتمتع بإعفاءات جمركية خاصة لدخول أمريكا قد يجد نفسه الآن تحت رسوم 10%، مما يضعف قدرته التنافسية مقابل دول أخرى. وكذلك صادرات الفوسفات والأسمدة المغربية أو زيت الزيتون التونسي وغيرها قد تتأثر بطول أمد المواجهة التجارية.
علاوة على ذلك، الكثير من اقتصادات الشرق الأوسط مرتبطة بالاقتصاد العالمي عبر الاستثمارات والتدفقات المالية. أي تراجع في أسواق الأسهم العالمية أو تشديد للسيولة ينعكس على صناديق الثروة السيادية الخليجية واستثماراتها الخارجية، وعلى شهية المستثمرين لضخ الأموال في مشاريع المنطقة الناشئة. وإذا تفاقمت الحرب التجارية إلى حد ضرب النمو العالمي بقوة، فقد يشهد الشرق الأوسط تراجعًا في السياحة وتحويلات العاملين بالخارج أيضًا، مما يضر الاقتصادات النامية كسوريا ولبنان ومصر التي تعتمد على تلك المصادر من العملة الصعبة.
من الزاوية السياسية والاستراتيجية، تراقب دول الشرق الأوسط هذا النزاع التجاري بحذر وتسعى للحفاظ على توازن علاقاتها مع القوى الكبرى. فالولايات المتحدة حليف أمني وسياسي مهم لمعظم دول المنطقة، والصين شريك تجاري واستثماري صاعد لا يمكن تجاهله. إذا استمرت الحرب التجارية واستقطبت العالم إلى معسكرين اقتصاديين، قد تجد دول الشرق الأوسط نفسها مطالبة بالانحياز أو على الأقل التكيف مع نظام عالمي جديد أكثر انقسامًا. بعض دول الخليج، مثل السعودية والإمارات، كانت قد وطدت علاقاتها الاقتصادية مع الصين في السنوات الأخيرة عبر اتفاقيات النفط والاستثمار. هذه الدول قد ترى في التوتر الأمريكي-الصيني فرصة لتعميق شراكتها مع بكين التي تسعى لتأمين إمدادات الطاقة وربما تعرض امتيازات مقابل ذلك.
في المقابل، تتوخى هذه الدول الحذر لعدم إغضاب واشنطن. فمثلاً، لن تُقدم دول الخليج على رد تجاري مقابل تجاه أمريكا لأنها ببساطة لا تستطيع المخاطرة بالعلاقة الاستراتيجية (عسكرية وسياسية) معها. وقد تلجأ بدلًا من ذلك إلى الضغط خلف الأبواب المغلقة لنيل إعفاءات أو استثناءات من بعض الرسوم، مستفيدة من أوراق نفوذها (كالاستثمارات الضخمة في الولايات المتحدة أو صفقات الأسلحة). بالفعل، لاحظ مراقبون أن الرسوم التي فرضت على الحلفاء التقليديين في الشرق الأوسط أبقيت عند الحد الأدنى 10%، وكأن إدارة ترامب أرادت إرسال رسائل حازمة دون قطع الخيوط مع أصدقائها العرب.
على مستوى الخطاب، لم نشهد بيانات عربية رسمية قوية تنتقد واشنطن كما فعلت أوروبا والصين علنًا. اكتفت أغلب الدول بالصمت أو تعليقات دبلوماسية عامة تدعو إلى الحوار وحل الخلافات التجارية سلميًا. وربما يعكس ذلك رغبة في عدم الانجرار لصراع ليسوا طرفًا رئيسيًا فيه، مع محاولة حماية مصالحهم بهدوء. جامعة الدول العربية بدورها تراقب التطورات، وقد تصدر دعوات لضبط النفس والتأكيد على أهمية التجارة الحرة لاقتصادات المنطقة، لكن دون قدرة حقيقية على التأثير بمسار الأحداث.
مخاوف من تصاعد حرب تجارية عالمية
مع توالي هذه الردود القوية من الصين وأوروبا وكندا وغيرها، بات شبح حرب تجارية عالمية يلوح في الأفق بقوة. الكثير من المراقبين يرون أن السيناريو الأسوأ هو دخول أكبر اقتصادات العالم في دوامة من الرسوم المضادة والعقوبات التجارية التي تعيد للأذهان حقبة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي حين أشعلت التعريفات المتبادلة أزمة اقتصادية عالمية خانقة. فاليوم أيضًا، حذّر خبراء الاقتصاد من أن هذه المواجهة إذا تصاعدت دون ضوابط ستؤدي إلى تباطؤ حاد في النمو العالمي وربما ركود عالمي.
مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا عقّبت على الموقف بقلق قائلة إن الرسوم الأمريكية "تمثّل مخاطر كبيرة على الآفاق الاقتصادية العالمية في وقت يشهد فيه الاقتصاد العالمي تباطؤًا في النمو". ودعت واشنطن إلى العمل مع شركائها لحل التوترات سريعًا وتقليل حالة عدم اليقين. حتى داخل أمريكا نفسها، أبدى العديد من الاقتصاديين والشركات الكبرى تحفظهم على الرسوم، محذرين من أنها سترفع التكاليف على المستهلك الأمريكي وتغذي التضخم (حتى سمّاها بعض المنتقدين في أوروبا "يوم التضخم" بدلًا من "يوم التحرير"). وبالفعل تشير التقديرات إلى أن أسعار الكثير من السلع اليومية في الولايات المتحدة سترتفع؛ من الأحذية الرياضية إلى الإلكترونيات وصولًا إلى هواتف الآيفون التي قد يزيد سعرها بمئات الدولارات، مما سيضغط على القدرة الشرائية للأسر الأمريكية.
في ظل هذه الصورة القاتمة، يبرز تساؤل: هل نحن فعلاً على أعتاب حرب تجارية شاملة، أم أن ما نشهده الآن مجرد تكتيك تفاوضي خشن بهدف تحسين الشروط ثم عقد صفقات؟ تصريحات الإدارة الأمريكية متضاربة بهذا الشأن. فمن جهة يؤكد مساعدو ترامب التجاريون أن القرار نهائي وليس ورقة تفاوض، ومن جهة أخرى يلمح ترامب نفسه بأن الرسوم مجرد أداة ضغط فعّالة للحصول على اتفاقيات أفضل (كما يقول إنه فعل في ولايته الأولى). هذا التباين يربك حلفاء واشنطن وخصومها على حد سواء. لكن ما هو واضح للجميع أن العالم يدخل منطقة اقتصادية مجهولة، وأن نظام الاقتصاد العالمي المفتوح الذي اعتاده الشباب في كل مكان يتعرض الآن لاهتزازات عنيفة.
بالنسبة للشباب في الشرق الأوسط، الذين يتابعون الأخبار عبر المنصات الرقمية، قد تبدو معركة الرسوم الجمركية أمرًا بعيدًا عن مشاغلهم اليومية. لكن الحقيقة أن الاقتصاد العالمي المترابط يعني أن ارتدادات هذه الحرب ستصل إليهم بشكل أو بآخر – في فرص العمل، في أسعار السلع، في استقرار بلادهم الاقتصادي وربما حتى في سياسات حكوماتهم الخارجية. إنها تذكرة جديدة بأن العالم اليوم أشبه بقرية صغيرة؛ قرار في واشنطن قد يعني فرصة ضائعة لشاب مصنع في طنجة، أو ارتفاع سعر هاتف المستهلك في الرياض، أو تقلص وظيفة مبرمج في بنغالور.
ويبقى الأمل معقودًا على أن تسود الحكمة ويتم تجنب الأسوأ عبر الحوار الدولي. الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة ستكون حاسمة: إما تهدئة وتفاوض يعيدان شيءًا من الاستقرار، أو اندفاع في دوامة تصعيد قد لا تُحمَد عقباها. وكما قالت الصين محذرةً: الحرب التجارية "لا فائز فيها". فهل يسمع العالم هذا التحذير ويتجنب إشعال مزيد من الحرائق الاقتصادية؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.