غزة والمجاعة: عندما يصبح الطعام سلاحاً
ملخص :
هل يحتاج الجوع إلى ختم أممي كي يصبح حقيقة؟
في واحدة من أكثر الحلقات عمقًا من بودكاست بعد الحدث، طرح النقاش سؤالًا صادمًا: هل يحتاج الجوع إلى ختم أممي كي يصبح حقيقة؟. هذا السؤال الذي يختصر مأساة غزة والعالم، عندما يتحول الحق في الحياة إلى وثيقة بطيئة تصدر بعد أن يفقد الآلاف أرواحهم.
ما هي المجاعة؟ ومن يقرر وقوعها؟
بدأت الحلقة بتفكيك المفهوم العلمي والإنساني للمجاعة، حيث أوضح الضيف أن الجوع لا يصبح “مجاعة” إلا حين تتحول المعاناة إلى ظاهرة جماعية. أي عندما يعيش آلاف الناس في منطقة واحدة انقطاعًا كليًا عن الحاجات الغذائية الأساسية، سواء بسبب الحروب أو الكوارث أو انهيار سلاسل الإمداد.
لكن في سياق الحروب، للمجاعة طابع آخر أكثر قسوة، فهي ليست نتيجة ظرف طبيعي، بل أداة تُستخدم عمدًا كسلاح لإبادة الشعوب أو إخضاعها.
وأشار المتحدثون إلى أن الأمم المتحدة طورت خلال السنوات الماضية أداة علمية لتصنيف المراحل الخمس للمجاعة، تبدأ من “انعدام الأمن الغذائي” وتنتهي عند “الإعلان الرسمي عن المجاعة”. ويشارك في هذا النظام منظمات دولية مثل منظمة الصحة العالمية (WHO) ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، وهي تعتمد على بيانات وتحليلات ميدانية دقيقة قبل إصدار أي إعلان.
بين العلم والسياسة: بطء المنظومة الأممية
إلا أن هذه المنهجية العلمية، كما قال المتحدثون، بقدر ما تمنح المصداقية، فإنها أيضًا تُبطئ الاعتراف بالكوارث. فالتقارير تمر عبر لجان وتحاليل ومراجعات حكومية، بينما يموت الناس جوعًا.
فالأمم المتحدة ليست كيانًا مستقلًا عن الحكومات، بل هي انعكاس لإرادتها. وبالتالي، فإن اعتبارات السياسة كثيرًا ما تؤخر إعلان المجاعة، كما حدث في الصومال عام 2011 حين مات أكثر من 200 ألف إنسان قبل أن يُصدر التصنيف الأممي تقريره النهائي.
وفي جنوب السودان أيضًا، فشل النظام في إعلان حالة المجاعة لأن الحكومة نفسها رفضت الاعتراف، فذلك يعني أنها تجوّع شعبها. وهنا، يلتقي العلم بالسياسة في نقطة مأساوية: حين تصبح الأرقام رهينة للمصالح، ويتحول الجوع إلى قضية مؤجلة في البيروقراطية الدولية.
غزة: التجويع كسلاح حرب
في محور النقاش الأساسي، تساءل المتحدثون: هل نحن بحاجة إلى تصنيف ومراحل زمنية لإثبات أن الجوع في غزة واقع فعلي؟
الإجابة جاءت واضحة: لا. فالتجويع في غزة ليس ظاهرة عرضية، بل سلاح ممنهج. إن منع المساعدات، وتدمير البنية التحتية، وعرقلة الإمدادات الطبية والغذائية، كل ذلك يندرج ضمن ما يُعرف بـ“التجويع كسلاح حرب”، وهو محظور في القانون الدولي الإنساني بموجب المادة 54 من اتفاقيات جنيف.
لكن رغم وجود تحذيرات قانونية وإنذارات مبكرة، لم يتخذ المجتمع الدولي أي إجراء جدي لوقف هذه الكارثة. فالمسألة، كما يرى ضيوف الحلقة، ليست في نقص الأدلة، بل في غياب الإرادة السياسية.
التحذير كان يجب أن يتحول إلى سياسة وقائية، لا إلى بيان متأخر بعد وقوع الكارثة.
إعلان المجاعة: خطوة إنسانية أم مناورة سياسية؟
سؤال آخر محوري طُرح في الحوار: هل إعلان المجاعة خطوة إنسانية أم سياسية؟
الإجابة كانت قاطعة: عدم إعلانها هو الجريمة السياسية. فالتأخر في الاعتراف بالجريمة لا يُبرئ أحدًا، بل يكرّس التواطؤ الأخلاقي.
لقد كرر العالم الخطأ ذاته في إثيوبيا وجنوب السودان، ويكرره اليوم في غزة، حيث يموت الأطفال جوعًا قبل أن تصل اللجان لتوثيق موتهم.
وما يجعل الأمر أكثر مأساوية أن آثار التجويع لا تنتهي بانتهاء الحرب؛ فالأجنة تُولد بوزن منخفض وبأمراض مزمنة نتيجة سوء التغذية، والأطفال سينشأون في مجتمع يعاني تبعات نفسية وصحية تمتد لعقود.
ما بعد الحرب: هل يتوقف الجوع؟
ناقش المتحدثون في الجزء الأخير من الحلقة سيناريوهات “اليوم التالي للحرب”.
هل سيتوقف الجوع بمجرد وقف إطلاق النار؟ ربما يتراجع مؤقتًا مع تدفق المساعدات وفتح المعابر، لكن الخطر الحقيقي يكمن في بقاء سكان غزة رهائن لقوافل المساعدات.
فمن دون إعادة إعمار المصانع والمزارع والبنية التحتية المدمّرة، سيبقى الاعتماد على الخارج قائمًا، وسيبقى الجوع مؤجلًا لا منتهيًا.
وأشار الضيوف إلى أن الحل الحقيقي لا يقتصر على ضخ المساعدات، بل يبدأ بإعادة بناء دورة الحياة داخل غزة — من الزراعة إلى الصناعة إلى المياه النظيفة. فبدون ذلك، لن تكون هناك “نهاية” للمجاعة، بل فصل جديد منها.
الموقف الدولي والضمير الإنساني
في ختام النقاش، طُرحت تساؤلات حول موقف الدول الغربية، التي أرسلت أساطيل “مساعدات” رمزية لا تحميها سوى بيانات سياسية. أشار الضيف إلى أن انسحاب بعض الدول الأوروبية من حماية أساطيلها مثال على عجز المجتمع الدولي عن اتخاذ مواقف حقيقية.
حتى في أفضل السيناريوهات، لو وصلت السفن إلى شواطئ غزة، فإنها لن تغيّر المعادلة جذريًا، لكنها قد تمنح بصيص أمل.
الحق في البقاء… لا يحتاج موافقة
اختتمت الحلقة بخلاصة إنسانية حاسمة: “أن تمد الإنسان بما يبقيه على قيد الحياة ليس ترفًا ولا شأنًا تفاوضيًا.”
فالغذاء والدواء والماء ليست بنودًا سياسية ولا أوراق تفاوض، بل هي جوهر الحق في الحياة ذاته.
الجوع لا ينتظر ختم الأمم المتحدة، ولا يحتاج إلى لجنة تقرر إن كان يستحق التعاطف. فحين يُستخدم الجوع كسلاح، تصبح الصمت جريمة، والاعتراف المتأخر تواطؤًا.