سنتان على الإبادة… وفلسطين ما زالت أمّ البدايات وأمّ النهايات
ملخص :
مقال رأي - مجد منصور
من الصدمة إلى الوعي: طريق الفلسطينيين نحو التعافي
- بعد عامين على الإبادة الجماعية في غزة، يبقى السؤال: كيف يمكن للإنسان والمجتمع أن يتعافى؟
- الحرب غيّرت وعي العالم، وأسقطت الرواية الإسرائيلية، لكنها خلّفت جرحًا عميقًا في الوعي الفلسطيني.
- التعافي يبدأ من الوعي لا من النسيان، ومن مراجعة الذات لا من خطاب القوة.
- جيل الشباب العربي أعاد تعريف المقاومة بوسائل جديدة: إعلامية، اقتصادية، وثقافية.
- فلسطين ما زالت “أم البدايات والنهايات”؛ فيها يولد الأمل كما تولد المأساة.
الصدمة التي لم تنتهِ
بعد مرور عامين على الإبادة الجماعية في غزة، ما زلت أعيش تحت تأثير الصدمة. كل يوم أسأل نفسي: ما هي الخطة التي كانت بعد اليوم الأول، بعد السابع من أكتوبر؟ ماذا كانت حركة حماس تنوي أن تفعل في اليوم التالي؟
هذا السؤال البسيط لم أجد له إجابة بعد، لكنه يرافقني كظلّ دائم. لأن فهم ما حدث ليس ترفًا فكريًا، بل خطوة أولى في التعافي.
الكتابة هنا ليست لتسجيل المأساة فقط، بل محاولة لفهمها — محاولة للشفاء الشخصي والجماعي، ولمساءلة الذات: كيف نخرج من كل هذا الألم ونحن أكثر وعيًا، لا أكثر قسوة؟
حرب غيّرت وجه العالم
تلك الحرب لم تغيّر فقط ملامح غزة، بل غيّرت وجه العالم. للمرة الأولى منذ عقود، اهتزت الرواية الإسرائيلية أمام الرأي العام العالمي. خرجت الملايين من الشعوب، خاصة من جيل الشباب في أوروبا وأمريكا، لتقول بصوتٍ واحد إن إسرائيل لم تعد “الضحية”، بل دولة تمارس الإبادة الجماعية أمام الكاميرات.
أعاد جيل “زد” اكتشاف معنى العدالة، فبدأت حملات المقاطعة الاقتصادية تتوسع، وانهارت الصورة الأخلاقية لإسرائيل التي بُنيت طيلة سبعة عقود.لكن وسط كل هذا التحوّل، يبقى السؤال المؤلم: من الذي دفع الثمن؟
الجواب واضح — الأطفال الذين استُهدفوا، والمدنيون الذين قُتلوا، والناجون الذين يعيشون اليوم في خراب لا يشبه الحياة.
هند رجب… الطفلة التي أصبحت أيقونة
من بين آلاف القصص التي خلّدتها الحرب، تبقى قصة الطفلة هند رجب رمزًا للبراءة المغدورة. تلك التي اتصلت بالإسعاف وطلبت النجدة بعد أن أُبيدت عائلتها أمام عينيها، ثم قُتلت هي أيضًا داخل السيارة نفسها. تسعة أيام من الانتظار والذعر، كفيلة بأن تختصر معنى “الإبادة” و“العجز الإنساني”. صوتها الذي سمعه العالم لم يكن مجرد استغاثة، بل مرآة ضمير كُسر أمام صمت العالم. حتى اليوم، يبقى فيلم “هند رجب” شاهدًا على ما حدث، وعلى فشل العالم في حماية طفلة واحدة من آلة الحرب.
فشل العالم… وتواطؤ الصمت
العالم لم يفشل فقط في منع الإبادة، بل تواطأ بصمته على استمرارها.وقفَت دول كبرى تشاهد ما يحدث وكأنها أمام بثّ مباشر لمأساة لا تخصها. تكسّرت كل القوانين الدولية، وسقطت شعارات “حقوق الإنسان” و“النظام العالمي”. حتى المساعدات الإنسانية وُوجهت بالقصف والمنع والابتزاز.لقد أثبتت الحرب أن العدالة الدولية، كما نعرفها، هي عدالة انتقائية — ترى الضحية حين تشاء، وتصمّ أذنها حين تكون فلسطين في المشهد.
التعافي… بين الذاكرة والوعي
لكن كيف يمكننا أن نتعافى من كل هذا؟ التعافي لا يعني النسيان، بل تحويل الألم إلى وعي جديد. أن نراجع ذواتنا بصدق: لماذا حدث ما حدث؟ ما مسؤوليتنا نحن كشعوب؟ كيف نمنع تكراره؟
التعافي يبدأ حين نتوقف عن انتظار الآخرين لإنقاذنا، وحين ندرك أن الشفاء لا يُمنح، بل يُنتزع بالوعي والقدرة على الفعل. هو مراجعة داخلية تضع الإنسان أولًا، وتُعيد الأخلاق إلى مركز القضية، لأن الإبادة لم تكن فقط في الجسد، بل في المعنى أيضًا.
المقاومة التي تغيّرت
أكبر دروس الحرب أن المقاومة ليست بندقية فقط. المقاومة فكرة، ثقافة، سردية، ووعي جماعي لا ينتمي إلى فصيل واحد. اليوم، يقاوم الشباب العربي عبر المقاطعة الاقتصادية، والإعلام، والمنصات الرقمية، وصناعة الرأي العام العالمي. هي مقاومة جديدة لا ترفع الشعارات بل تغيّر الواقع، وتعيد تعريف القوة من جديد. ربما يكون هذا التحول هو أول ملامح التعافي الحقيقي: أن نكتشف أن النضال يمكن أن يكون بالكلمة، بالصورة، وبالوعي.
نحو سردية جديدة لغزة
غزة ليست فقط مشهدًا للدمار، بل حكاية عن الحياة أيضًا. أهل غزة هم المثال الأوضح على أن الإنسان يمكن أن يُهدم بيته، ويُحاصر وطنه، لكنه يظلّ يبني — يزرع، يدرّس، يضحك، ويحب. هم لا ينتظرون أحدًا ليكتب سرديتهم الجديدة، فهم يكتبونها كل يوم من تحت الركام، بأفعالهم الصغيرة التي تقول: ما زلنا هنا.
وهنا تبدأ أولى خطوات التعافي — أن نحكي حكايتنا من جديد، لا كضحايا بل كناجين، لا كأرقام بل كأرواح تبحث عن معنى الحياة.
طريق طويل نحو الشفاء
سنتان على الإبادة… وما زلنا نحاول أن نفهم. لكن بين الرماد، يطلّ بصيص ضوء: أن الإنسان قادر على النهوض، وأن فلسطين — كما قال محمود درويش — “أمّ البدايات وأمّ النهايات.”ربما لا نملك اليوم كل الإجابات، لكننا نملك الوعي بأن هذا الجرح لن يكون عبثًا.
فمن رحم المأساة، قد يولد وعي جديد، وحياة جديدة، ووطن يليق بمن صمدوا.



