مباراة لم تكن مباراة: اتفاق غير معلن على الأمل
كتب مجد منصور

ملخص :
في مساء عادي، ربما لم يكن أحد يظن أن مباراة كرة قدم يمكن أن تفتح نافذة صغيرة في جدار السنوات الثقيلة التي مرّت على بلاد الشام، تعادلٌ بين فلسطين وسوريا، تَأهُّلٌ مشترك لربع النهائي، واحتفالات متواضعة خرجت من الأزقّة والمقاهي وبيوت المخيمات المكدّسة.. لحظة قد يراها البعض عابرة، لكنها بالنسبة لشعوبٍ أثقلت الحربُ كتفيها، كانت تشبه يدًا تمتد من بين الركام لتقول: ما زال في الحياة متّسع لابتسامة.
لم يكن هذا الحدث الرياضي عاديًا، ولا كان التعادل مجرد أرقام على لوحة مضيئة؛ كان أشبه برسالة غير منطوقة تتنقل بين السوريين والفلسطينيين والأردنيين واللبنانيين والعراقيين، تحمل توقيع النوستالجيا وتاريخًا طويلًا من الوجع والقرابة والذاكرة المشتركة، فهذه الشعوب التي فرّقتها الحدود الحديثة، جمعها الحنين أكثر مما جمعها الجغرافيا.
بلاد واحدة قسّمتها الخرائط.. ولكن لم تفصلها القلوب
إن شعوب بلاد الشام، رغم اختلاف الدول والمنعطفات السياسية، تتشابه إلى حدّ التماهي؛ نفس الوجوه السمراء المشرقة بالتعب، نفس المطبخ الذي يحمل رائحة الزيت والزعتر والكمون، نفس الأغاني التي يرددها الناس في المدن والقرى، ونفس الحكايات التي تبدأ من أطلال حضارات قديمة وتنتهي في مقهى شعبي تتعالى فيه ضحكات الشباب رغم قساوة الأيام.
لقد شاءت الجغرافيا أن تكون هذه المنطقة مركزًا لتقاطع الطرق، وشاء التاريخ أن تكون مسرحًا للحروب واللجوء والفقدان، وشاءت الشعوب نفسها أن تبقى متلاصقة، تجرّ بعضها من الظلام كلما ثقل الليل عليها. لا يمكن الحديث عن فلسطين دون ذكر سوريا، ولا عن سوريا دون أن تحضر الأردن ولبنان والعراق في الذاكرة.. هي علاقات لا تختصرها السياسة ولا تعبر عنها الكتب، إنها علاقات دم وعرق وملح، تشبه العلاقة بين أخوة شتّتهم السفر لكن جمعتهم الطفولة.
نوستالجيا تُداوي جراح المدن
يعرف أبناء هذه المنطقة أن النوستالجيا ليست ترفًا، وليست مجرد حنين إلى الماضي من باب الرومانسية، إنها آلية نجاة، حاجة روحية لإنسان عاش ما يكفي من الحروب ليبحث عن أي شيء يعيد إليه شعورًا بسيطًا بالأمان، النوستالجيا في بلاد الشام ليست "تذكّرًا"، بل هي تعويض عن سنوات ضاعت وأيام لم يعشها الناس كما ينبغي.
لذلك، حين يتجمع السوري والفلسطيني واللبناني والعراقي والأردني أمام شاشة صغيرة لمشاهدة مباراة، فهم لا يشاهدون كرة القدم فقط.. إنهم يشاهدون نسخًا صغيرة من أنفسهم، يحاولون أن يصدقوا أن هناك ما زال شيئًا قادرًا على الجمع بينهم: هتاف واحد، فرح واحد، حلم واحد حتى لو كان مؤقتًا.
التعادل الذي لم يكن تعادلًا فقط
لم تكن مباراة فلسطين وسوريا مجرد منافسة رياضية، لقد رأى الناس فيها شيئًا يشبه اتفاقًا عفويًا على الفرح، سواء جاء التعادل بتفاهم غير معلن أو بهدوءٍ فرضته قواعد اللعبة، النتيجة بالنسبة للجمهور بدت كأنها تقول: "دعونا نتقاسم الفرح كما نتقاسم الحزن منذ عقود".
فلسطين التي حملت جراحها الطويلة إلى كل ملعب دخلته، وسوريا التي خرجت من عقدٍ دامٍ تبحث عن لحظة تنفّس، التقيا في نقطة مشتركة: أن الفرح، مهما كان صغيرًا، يستحق أن يُحمَل على الأكتاف كأنه بطولة كاملة.
ربما لن يصل المنتخبان إلى النهائي.. وربما يعرف الجمهور ذلك جيدًا، لكن ما أهمية النهائي أمام لحظة تعطيك إحساسًا بأنك لست وحدك في هذا العالم؟ أمام لحظة تذكّرك بأن الشعوب-حتى لو بدت منهكة-لا تزال قادرة على صناعة المعنى من أبسط التفاصيل؟
مقاهٍ تمتلئ بالضحك بعد سنوات من الصمت
في عمّان، شاهدت عائلات سورية وفلسطينية المباراة معًا، كما لو أنهم يعيدون تمثيل مشاهد قديمة من حياة كان فيها السفر بين دمشق والقدس مرورًا ببيروت مسألة ساعات لا عقود، في مخيمات لبنان، تعالت صيحات الأطفال الذين وجدوا أخيرًا ذريعة ليفرحوا دون أن يسألهم أحد: "ممّ تضحكون؟"، وفي بغداد، جلس مشجعون يهتفون لفلسطين وسوريا كأنهم يهتفون لأنفسهم.
هذه التفاصيل الصغيرة، التي لا تُلتقط بالكاميرات، هي ما يعطي للمباراة معنى يتجاوز حدود الملعب، فهتاف من مخيم، وصفقة يد في مقهى، ودمعة خفيفة من شاب يبحث عن وطن ضاع منه قسرًا.. كلّها أصبحت جزءًا من سردية مشتركة لم تكتبها الرياضة وحدها، بل كتبها الحنين والجراح المتشابهة.
الفرح في بلاد الشام.. فعل مقاومة
أبناء هذه المنطقة يعرفون أن الفرح ليس حقًا مضمونًا، بل هو فرصة تُنتزع انتزاعًا من بين أنياب الأيام، ولهذا، فإن أي لحظة تجمعهم-مهما صغرت-تصبح فعل مقاومة: مقاومة للبؤس، للحروب، للانقسام، للذاكرة المثقلة.
عندما يفرح الفلسطيني، فهو يعلن أنه لم يُهزم بعد.
وعندما يفرح السوري، فهو يثبت أن الحياة ما زالت ممكنة.
وعندما يفرح العراقي واللبناني والأردني معهم، فهم يكتبون معًا قصة عابرة للحدود، لا يمكن لأي واقع سياسي أو جغرافي أن يمحوها.
لحظة تستحق أن تُكتب في ذاكرة الشعوب
كان التعادل بين فلسطين وسوريا أشبه برسالة تقول: "لسنا على ما يرام، لكننا نحاول.. نحاول أن نسرق لحظة من الفرح لنضعها فوق جبال الخسارات الطويلة".
ولعل هذه اللحظة، رغم بساطتها، كانت أقوى من كثير من الخطابات والنشرات الإخبارية، لأنها خرجت من الناس وإليهم، دون وسيط.
الفرح الذي يصنع مستقبلًا
قد لا يتأهل المنتخبان إلى النهائي، وقد تُطوى هذه اللحظة بسرعة كما طُويت مئات اللحظات من قبل، لكن ما يبقى حقًا هو هذا الشعور بأن شعوب بلاد الشام-رغم كل شيء-لا تزال قادرة على الوقوف جنبًا إلى جنب، على مشاركة الحلم، على أن ترى في تعادل رياضي رمزًا لعدالة عاطفية تريدها في حياتها.
فالنهائي الحقيقي ليس كأس البطولة؛ النهائي الحقيقي هو أن تجد الشعوب ما يوحدها، أن تلمس شيئًا يشبه المستقبل، وأن تتذكر أنها، مهما طال الليل، تستحق الفرح.





