كارل ماركس.. الفيلسوف الذي غيّر مسار الفكر الاقتصادي والسياسي

ملخص :
البداية: نشأة فكرية في قلب أوروبا
- وُلد كارل ماركس في 5 مايو/أيار 1818 بمدينة ترير التي كانت آنذاك جزءاً من مملكة بروسيا شرق ألمانيا. ينحدر من أسرة ميسورة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وضمت تسعة أبناء.
- نشأ في بيئة ذات جذور يهودية؛ فوالده هاينريش ماركس كان من عائلة ضمّت عدداً من الحاخامات.
- اضطر إلى اعتناق البروتستانتية عام 1816 لممارسة مهنة المحاماة بعد صدور قوانين تمنع اليهود من الوظائف العمومية.
- والدته هنرييت برسبورغ، فتنتمي إلى أسرة يهودية هولندية، وظلت على ديانتها حتى وفاة والدها قبل أن تعتنق المذهب اللوثري عام 1825.
التعليم وبدايات المسار الفلسفي
تلقى ماركس تعليمه الثانوي في مدينته، ثم انتقل عام 1835 إلى بون لدراسة القانون، قبل أن يحط رحاله في برلين عام 1836 لدراسة الفلسفة والتاريخ بجامعة فريدريش فيلهلم.
بدأ إعداد أطروحته الجامعية سنة 1839 حول الفلسفة الإبيقورية، مع التركيز على الفروق بين ديموقريطس وإبيقور، ونال درجة الدكتوراه عام 1841 من جامعة يينا.
في سنوات الدراسة الأولى، تأثر ماركس بالفلسفة الهيغلية وكان كثير التردد على حلقات الهيغليين الشباب، لكن سرعان ما انجذب إلى الفلسفات المادية خلال عمله على أطروحته، متأثراً بالنقاشات الحادة حول الدين والفكر مع موزس هس وبرونو باور، إضافة إلى تأثيرات لودفيغ فيورباخ.
من الهيغلية إلى المادية.. تحولات فكرية حاسمة
أسهمت إقامته في باريس لاحقاً في تعميق تحوله الفكري، إذ اطّلع على أطروحات الاشتراكيين الفرنسيين مثل سان سيمون، وفورييه، وبيير برودون، وشيئاً فشيئاً انتقل من المثالية الهيغلية إلى المادية، ومن النزعة الديمقراطية الثورية إلى الشيوعية الثورية.
الصحافة والنضال السياسي
بدأ ماركس مساره المهني في الصحافة، محرِّراً في صحيفة الراين قبل أن يتولى رئاسة تحريرها عام 1842، غير أن السلطات أغلقتها بداية 1843، وأصبح مراسلاً لصحيفة نيويورك تريبيون، واستمر في الكتابة والتأليف معظم حياته.
وفي عام 1847 تولى رئاسة فرع الرابطة الشيوعية في بروكسيل، وأسّس جمعية العمال الألمان، كما شارك مع صديقه فريدريك إنجلز في صياغة "بيان الحزب الشيوعي" بتكليف من المؤتمر الثاني للرابطة الشيوعية عام 1847.
الأممية الأولى.. مشروع عالمي للحركة العمالية
في عام 1864 أسّس ماركس الجمعية الدولية للعمال (الأممية الأولى) بهدف توحيد الطبقة العاملة في أوروبا والنهوض بوعيها السياسي، وتولى رئاستها بين عامي 1866 و1872، وصاغ رسالتها الافتتاحية، ليُثبت حضوره كأبرز مفكري الحركة العمالية العالمية.
البحث الاقتصادي.. الطريق إلى "رأس المال"
بعد فترة قصيرة في العمل الصحفي، بدأ ماركس التعمق في الاقتصاد السياسي أثناء إقامته في باريس عام 1843، واطّلع على أعمال كبار الاقتصاديين مثل آدم سميث، وريكاردو، وستوارت ميل، وقد أسهمت دراساته في وضع أسس نقده للرأسمالية، وصياغة مفاهيم جديدة أثرت الاقتصاد السياسي لعقود.
من بين هذه المفاهيم: المادية الجدلية، الاغتراب، فائض القيمة، وتراكم الرأسمال، ورأى ماركس أن المجتمع الرأسمالي محكوم بصراع طبقي بين الطبقة البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، والطبقة العمالية الخاضعة للاستغلال، وأن هذا الصراع يولد حتمياً ثورة تؤدي إلى التحول نحو الاشتراكية.
مفاهيم الصراع الطبقي والمادية الجدلية
عدَّ ماركس تاريخ المجتمعات سلسلة متصلة من الصراعات الطبقية الناجمة عن تضارب المصالح الاقتصادية، معتبرا أن الرأسمالية تحمل في بنيتها بذور انهيارها نتيجة ميل معدل الربح إلى الانخفاض، والأزمات الدورية الناجمة عن فرط الإنتاج.
وقد طوّر "المادية الجدلية" بالجمع بين جدلية هيغل، ومادية فيورباخ، ليعرض تصوراً مادياً للتاريخ الإنساني، كما فصّل في مفهوم "الاغتراب" الذي يصف انفصال العامل عن نتاج عمله وعن ذاته وما يسببه ذلك من تشوه اجتماعي ونفسي.
فائض القيمة.. جوهر نقده للرأسمالية
يرى ماركس أن فائض القيمة هو القيمة التي ينتجها العامل بعد سدّ قيمة أجره، وتستولي عليها الطبقة الرأسمالية باعتبارها جوهر عملية الاستغلال، ويؤدي هذا الفائض إلى تراكم رأسمالي يُنتج دورات متتابعة من الأزمات الاقتصادية، ما يجعل النظام الرأسمالي غير قادر على الاستمرار وفق منطقه الداخلي.
المؤلفات.. إرث فكري عالمي
خلّف ماركس عدداً من المؤلفات المرموقة، أبرزها:
- رأس المال
- نظريات فائض القيمة
- مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي
- الأيديولوجيا الألمانية
- بيان الحزب الشيوعي
- أطروحات حول فيورباخ
- بؤس الفلسفة
ويُعد "رأس المال" أهم أعماله، إذ تناول فيه نقد الاقتصاد السياسي والنمط الرأسمالي في الإنتاج بهدف كشف القوانين التي تحكم حركة المجتمع الحديث.
وفاة ماركس
توفي ماركس في 14 مارس/آذار 1883 بعد أشهر من المرض، ودُفن في مقبرة هاي غيت بلندن في 17 مارس.
تطور الماركسية وتحولاتها: من النظرية إلى التجربة
لتفهم أفكار ماركس، لا بد من النظر إلى أوروبا القرن التاسع عشر، حيث اشتدت ظروف العمل في المصانع، وارتفعت معدلات الفقر في المدن الجديدة، وكان ماركس يرى أن تفاقم بؤس العمال سيقود إلى ثورة ضد أصحاب رؤوس الأموال، تليها مرحلة "ديكتاتورية البروليتاريا" التي تتولى فيها الطبقة العاملة إدارة الاقتصاد وملكية وسائل الإنتاج.
الماركسية المبكرة.. بين الاغتراب والطبيعة البشرية
في مخطوطات باريس (1844)، تناول ماركس الاغتراب العمالي وانفصال الإنسان عن نتاج عمله، واعتبر تقسيم العمل عامل تهشيم للقدرات الإنسانية وسبباً لتفكك الروابط الاجتماعية بين العمال.
أما في الأيديولوجيا الألمانية (1845–1846)، فقد تخلى عن مفهوم "الطبيعة البشرية" لصالح تحليل تاريخي يربط نشوء الرأسمالية بتطور قوى الإنتاج وبداية عصر جديد يمهّد لمجتمع أكثر مساواة.
التطبيقات الثورية.. بين الإصلاح والانفجار
في بدايات القرن العشرين ظهرت مدارس متعددة للماركسية، فبينما فضّل الجناح الإصلاحي في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني بقيادة إدوارد برنشتاين التغيير التدريجي عبر صناديق الاقتراع، اتجه البلاشفة في روسيا بقيادة لينين نحو تبنّي مسار ثوري عنيف.
ورأى لينين أن حزباً طليعياً يمكنه الاستيلاء على السلطة، لكنه احتفظ بها في يد نخبة صغيرة، وهو ما خالف جوهر رؤية ماركس الديمقراطية التي شددت على انتخاب القيادة ومحاسبتها.
من لينين إلى ستالين: الماركسية في ظل الأنظمة الشمولية
بعد وفاة لينين عام 1924، تولى جوزيف ستالين السلطة وبدأ مرحلة من التطهير العنيف، قتل خلالها أكثر من 750 ألف شخص وسُجن الملايين في معسكرات العمل القسري، وقد قُتل أكثر من 20 مليون شخص في عهده بحسب تقديرات، ووصلت المآسي ذروتها في الصين خلال "القفزة الكبرى إلى الأمام" (1958–1961) التي أودت بحياة نحو 46 مليوناً.
ورغم أن هذه الأنظمة نسبت نفسها إلى الماركسية، فإن كثيراً من الباحثين يؤكدون أنها لم تلتزم بجوهر أفكار ماركس، بل حوّلتها إلى أدوات حكم سلطوي.
لا يزال ماركس أحد أكثر المفكرين تأثيراً في العصر الحديث، خاصة في تحليله للرأسمالية كنظام تاريخي محدود الأفق، ورغم أن نظريته لم تتوقع أزمات مثل ندرة الموارد والانفجار السكاني أو التحديات البيئية، فإن نقده العميق لمنطق الربح الذي يقود النظام الرأسمالي يبقى حاضراً في النقاشات حول مستقبل البشرية.
وقد لفت ماركس مبكراً إلى أن القوى المستفيدة من الوضع القائم ستقاوم أي تغيير جذري حتى لو كان يهدد مستقبل الأجيال القادمة، وهو ما يجعل أطروحاته حول ضرورة إيجاد نظام اقتصادي أكثر إنسانية محل اهتمام متجدد في ضوء أزمات المناخ والفوارق الاجتماعية.





