الأوليغارشية: حكم القلة.. التعريف والجذور التاريخية

ملخص :
الأوليغارشية: حكم الأقلية المهيمنة
تُعرّف الأوليغارشية بأنها نظام سياسي تُحصر فيه السلطة بيد مجموعة صغيرة من الأفراد المتميزين بالثروة أو النسب أو القوة العسكرية، ويعود أصل الكلمة إلى اليونانيةὀλιγαρχία التي تعني "حكم القلة"، وغالباً ما تقوم الأنظمة الأوليغارشية على نفوذ عائلات محدودة تتوارث السلطة عبر الأجيال.
تعريفات للمصطلح
في القواميس والموسوعات الغربية
- أورد القاموس السياسي الفرنسي أن الأوليغارشية هي "نظام تتركز فيه معظم السلطات بأيدي عدد محدود من الأفراد، سواء كانوا عائلات نافذة أو طبقة اجتماعية أو طائفة تستمد قوتها من الثروة أو التقاليد أو القوة العسكرية".
- أما موسوعة لاروس فعرّفتها بأنها "نظام سياسي تُدار فيه السلطة من قبل نخبة مثقفة (أرستقراطية) أو أقلية ثرية، وغالباً ما يتم الخلط بينهما".
- وفي تعريف صحيفة دونت الفرنسية، تُوصف بأنها "حكومة تديرها مجموعة صغيرة استناداً إلى فكرة أن قسماً محدوداً فقط من المواطنين يمتلك الكفاءة والمعرفة لإدارة الدولة".
- كما عرّف القاموس البريطاني الأوليغارشية بأنها "نظام تُناط فيه السلطات بمجموعة قليلة في الطبقة المسيطرة أو زمرة محددة".
- معجم أكسفورد وصفها بأنها "مجموعة صغيرة تتحكم في إدارة دولة أو منظمة".
رؤية الفلسفة السياسية
- أفلاطون: أول تصنيف لنظم الحكم
كان الفيلسوف اليوناني أفلاطون أول من صاغ تصنيفاً واضحاً لأشكال الحكم، معتبراً أن الأوليغارشية امتداد للحكم الأرستقراطي، وفي كتابه "الجمهورية" وضع ستة نماذج سياسية، ضمنها حكم القلة، وقسمها إلى أنظمة تحترم القانون وأخرى تنتهكه.
- أرسطو: الثروة أساس السلطة
وسّع أرسطو التحليل حين اعتبر أن الأوليغارشية تشترط نصاباً مالياً محدداً لمنح صفة المواطنة السياسية، وبحسب رؤيته، يتحدد شكل الحكم وفق الثروة والملكية، ويزداد نفوذ الأوليغارشية بازدياد حجم طبقة أصحاب الأملاك، وهكذا مهّد لربط المصطلح بـ "حكم الأثرياء" أو "البلوتوقراطية"، لكنه أكد أنها تبقى نسخة مشوّهة من الأرستقراطية.
كما رأى أرسطو أن حكم القلة ينتهي دائماً إلى الطغيان بسبب النزعة للاحتفاظ بالسلطة، ويستخدم المصطلح اليوم لوصف حكومات تعتمد على دعم قوى اقتصادية أو نفوذ خارجي بدلاً من شرعية شعبية.
أوليغارشية النفوذ والمال: رؤية حديثة
ورد في المعجم الوسيط أن الأوليغارشية هي "نظام سياسي تمسك بزمامه قلة من ذوي السلطة والمال"، ويعرّف قاموس مريام ويبستر النظام بأنه حكم فئة صغيرة تعمل غالباً من أجل مصالح ضيقة.
أما عالم الاجتماع باريتو فاعتبرها "حكم الأقلية الأعلى كفاءة في معترك الحياة"، فيما يرى باحثون سياسيون مثل جبار علاوي أن الأوليغارشية تقوم على مبدأ حكم الأغنياء الذين يسعون لزيادة ثرواتهم عبر التحكم في السلطة.
ووفق هذا الطرح، فإن الثقافة الأوليغارشية ثقافة "فوقية" تقوم على تشكيل الهويات الاجتماعية والتلاعب بها بما يخدم بقاء النخبة الحاكمة، مما يؤدي إلى بروز الصراعات الطائفية والقبلية بعيداً عن مركز السلطة.
ويشير الكاتب أمارتيا صن إلى أن هذه البنية تنتج العنف عبر فرض هويات انعزالية وعدوانية يروّج لها محترفون قادرون على استغلال البسطاء.
الأوليغارشية العابرة للحدود: نفوذ يتجاوز الدولة
لم يعد مفهوم الأوليغارشية مقصوراً على الحكم داخل الدولة، بل تعدّاه ليصف تحكم قلة من أصحاب النفوذ في مصائر المجتمعات على مستوى عالمي، فمجموعات الضغط والمصالح في الولايات المتحدة – مثل المجمع العسكري–الصناعي، وقطاعات الطاقة والدواء والمال – تُعد نموذجاً لـ "أوليغارشية عابرة للأوطان" تتحرك وفق أيديولوجيا مرتبطة بمصالحها الاقتصادية.
الأوليغارشية المالية: قوى تتحكم بالاقتصادات الحديثة
تُعرف الأوليغارشية المالية بأنها الفئة الاجتماعية التي تضم كبار المصرفيين والصناعيين الذين يسيطرون على سياسات واقتصادات الدول، ويحدث ذلك عبر اندماج رأس المال المصرفي بالمالي لتكوين رأس المال المالي، مما يركز الثروة في يد قلة محدودة.
وقد أدى هذا النموذج إلى إخضاع اقتصادات دول عديدة عبر الاستثمارات الضخمة التي تحقق أرباحاً تفوق بكثير الأرباح الناتجة عن الإنتاج الصناعي، وتصل في بعض الحالات إلى أكثر من 100%.
ويُطلق على هذه المجموعات مصطلح الكونسورسيوم (konsorsiyum)، الذي يضم ملاك المصارف وشركات الطيران والتأمين والكهرباء والمياه والفنادق ووكالات الاستيراد وحتى النفوذ البرلماني، ما يمنحهم سيطرة اقتصادية وسياسية متداخلة.
الأوليغارشية في فلسفة ميكيافيللي
قدّم ميكيافيللي في كتابه "المطارحات" تصنيفاً للنظم السياسية في حال فسادها، موضحاً أن:
- الملكية العادلة تتحول إلى استبداد عند فسادها.
- الأرستقراطية تتحول إلى أوليغارشية.
- الديمقراطية تؤول إلى الفوضى أو حكم الغوغاء.
وهذا يضع الأوليغارشية ضمن أنماط السلطة المشوهة التي تنتج عن انحراف النظم السياسية التقليدية.
يمثل نظام الأوليغارشية نموذجاً لحكم الأقلية القائمة على النفوذ الاقتصادي أو العسكري أو الاجتماعي، وهو شكل حكم يمتد من التاريخ القديم إلى المشهد السياسي والاقتصادي العالمي المعاصر، ويتفق الباحثون والفلاسفة على أن هذا النموذج يحمل مخاطر تقويض العدالة الاجتماعية وتفكيك وحدة المجتمع، إضافة إلى احتمالات انزلاقه نحو الاستبداد أو هيمنة رأس المال على الدولة، سواء ضمن حدودها أو عبر شبكات نفوذ تتجاوزها.





