أبو شباب… حين يتحوّل ابن الأرض إلى جندي بالوكالة: لماذا تتكرر الخيانة عبر التاريخ؟

ملخص :
لم تكن قصة "أبو شباب" التي شغلت الفلسطينيين خلال الأسابيع الماضية قصة جديدة. بدا المشهد — شابٌ يعمل على أرضه، وسط ناسه، ثم ينكشف فجأة كـ مقاتل يعمل لصالح العدو — كأننا أمام نسخة جديدة من حكاية قديمة، حكاية تتكرر كلما وجد الاحتلال نفسه محتاجًا لمن يقاتل عنه.
في لحظة الكشف، بدا كثيرون وكأنهم يكتشفون الظاهرة لأول مرة، لكن التاريخ كان يقول شيئًا آخر:
أبو شباب ليس استثناءً… بل حلقة جديدة في سلسلة طويلة تتكرر منذ نشأة أول جيش وأول قبيلة.
من هو "الجندي العميل"؟ ولماذا يختلف عن “المخبر”؟
حين يتبادر إلى الذهن مفهوم “العميل”، نفكر عادة في شخص يمرّر معلومة سرّية أو يرصد حركة مقاتلين أو يلتقط صورة مشبوهة في الخفاء.
لكن حالة "أبو شباب" كانت مختلفة تمامًا.
هو ليس مجرد عينٍ للعدو، بل ذراع له.
ليس شاهدًا، بل فاعلًا.
ليس همزة وصل، بل قطعة في الماكينة العسكرية التي تشتغل ضد مجتمعه.
هنا يصبح المصطلح الأدق هو: "الجندي بالوكالة" — شخص يلبس زيّ العدو دون أن يلبسه، ينفذ مهامًا قتالية أو شبه قتالية، يشارك في كمائن، في اغتيالات، في جمع أهداف لا تُستخدم للمراقبة فقط، بل للقتل.
هذا النوع من العملاء — الذين يتحولون إلى مقاتلين — هو أخطر ما يمكن أن تخلّفه بيئة الاحتلال.
والأخطر أنه نموذج بشري متكرر، يظهر في مناطق النزاع كلما وجد احتلالًا يبحث عن "أذرع محلية" تقلل خسائره وتساعده على الاندماج داخل المجتمع المستهدف.
مشهد من غزة… وبقايا مشاهد من قرون سابقة
عندما انكشفت قصة أبو شباب، انشغلت مواقع التواصل بتفاصيلها: ماذا فعل؟ كيف جُنّد؟ ما المهام؟ لماذا وافق؟
لكن ما غاب عن الضجيج هو أن هذه القصة ليست فلسطينية فقط، ولا عربية فقط، ولا حديثة فقط.
هذه القصة لها جذور تمتد إلى:
- جيش الرومان في القرن الأول
- قوات الاحتلال الفرنسي في الجزائر
- جيش لحد في جنوب لبنان
- الوحدات المساعدة للبريطانيين في فلسطين
- الميليشيات العراقية بعد 2003
كل قوة احتلال في التاريخ — وكل جيش خارجي دخل أرضًا غريبة — اعتمد دائمًا على نموذج بشري يشبه تمامًا “أبو شباب”.
الرومان… أول من فهم قيمة "الجندي المحلي"
قبل ألفي عام، اكتشف الرومان أن الغزاة، مهما بلغ عددهم، لا يستطيعون السيطرة على أرضٍ لا يفهمون لغتها وعاداتها وطرقها وطباع ناسها.
فابتكروا منظومة القوات المساعدة (Auxilia): فرق عسكرية من أبناء المناطق المحتلة، يقاتلون تحت راية روما ضد قبائلهم.
كان الرومان يعرفون أن المجتمعات تتفكك تحت الفقر والضرائب الثقيلة والانقسامات، وأن بعض الأفراد قد يرى في خدمة الإمبراطورية طريقًا للثراء أو الحماية.
لقد صنعوا “أبو شباب” قبل ألفي سنة… لكن بثوب روماني.
الاحتلال الفرنسي في الجزائر… حين قاتل الجزائري الجزائري
بعد قرون، عادت الفكرة نفسها.
فرنسا لم تعتمد فقط على جيشها لقتال ثوار جبهة التحرير الوطني، بل أنشأت وحدات كاملة من الجزائريين.
هؤلاء كانوا يُسمّون الحركيين — جزائريون يحملون السلاح ضد أبناء بلدهم.
قاتلوا، واعتقلوا، وشاركوا في عمليات تصفية، ووقفوا في الصف المقابل لشعبهم.
وعندما خرجت فرنسا، تركتهم يواجهون مصيرهم وحدهم.
هنا تتكرر الإجابة:
لم يكن هؤلاء أول من قاتل لصالح عدو، ولن يكون أبو شباب آخرهم.
جيش لبنان الجنوبي… النسخة العربية الأوضح للنموذج
في جنوب لبنان خلال الاحتلال الإسرائيلي، تأسس ما عُرف بـ جيش لحد.
مقاتلون لبنانيون — بدافع المال، أو الحماية، أو الخوف — أصبحوا الذراع العسكرية التي تقاتل المقاومة اللبنانية وتنفذ الاعتقالات والكمائن لصالح إسرائيل.
لم يكن هؤلاء مخبرين.
كانوا جنودًا كاملي المهام، ببزّات رسمية ورواتب ومواقع ونقاط تفتيش.
وعندما انسحبت إسرائيل عام 2000، هرب معظمهم معها.
سقط المجتمع في دوامة من الأسئلة: كيف يتحول ابن القرية إلى عدو لجيرانه؟ كيف يتجند شخص ليحمل سلاحًا ضد أهله؟
وهي الأسئلة نفسها التي طرحها الفلسطينيون بعد قصة أبو شباب.
البريطانيون في فلسطين… حين تولّد العملاء من رحم الحاجة والفقر
قبل 1948، شكّل الاحتلال البريطاني مجموعات فلسطينية مسلّحة كانت تنفذ عمليات اعتقال ومداهمة داخل القرى.
البريطانيون فهموا مبكرًا أن القوة الخارجية دائمًا تحتاج "وجوهًا محلية" لتكون غطاءً للسيطرة.
كان التجنيد يتم عبر:
- الرواتب
- الوعود
- الحماية
- الابتزاز
- أو استغلال خلافات عائلية
نفس أدوات التجنيد التي تستخدمها إسرائيل اليوم.
لماذا يقبل شخص بأن يصبح “جنديًا للعدو”؟
السؤال الأخلاقي كبير، لكنه ليس معقدًا كما يبدو.
علم النفس السياسي والاجتماع العسكري يضع خمس دوافع أساسية:
1) الفقر والحرمان
في المجتمعات المحاصرة، مجرد راتب ثابت قد يُعتبر “خلاصًا” فرديًا، ولو كان ثمنه خيانة جماعية.
2) الشعور بالعجز وانهيار الأمل
حين يعتقد شخص أن الاحتلال باقٍ، وأن المقاومة “لا تساوي شيئًا” أمام القوة العسكرية، قد ينحاز للطرف الأقوى.
3) الابتزاز
صورة، خطأ صغير، مشكلة شخصية… قد تتحول إلى حبل يلتف حول رقبة الشخص، ويدفعه للعمل في مهام قتالية.
4) الرغبة في القوة الفردية
البعض يشعر للمرة الأولى بأنه “شخص مهم” حين يرتبط بجهاز أمني خارجي يمنحه سلطة على الآخرين.
5) الانتقام الشخصي
أحيانًا يختلط التاريخ العائلي بالنزاع الوطني فينتج “عميلًا مقاتلًا”.
هذه الدوافع ليست فلسطينية ولا عربية فقط… بل إنسانية، تتكرر في كل مكان.
لماذا تتكرر الظاهرة؟ ولماذا لن يكون أبو شباب الأخير؟
لأن أي قوة احتلال — من روما إلى إسرائيل — تعتمد على ثلاث قواعد ثابتة:
1) الاحتلال يحتاج دائمًا لذراع محلية
فهو لا يعرف المجتمع مثل أبنائه، ولا يستطيع أن يدخل كل الأزقة والمخيمات والبيوت.
هنا يأتي دور “الجندي العميل”.
2) المجتمعات المنهكة تولّد أفرادًا هشّين
حين تنهار البنى الاقتصادية والاجتماعية، يصبح التجنيد أسهل.
3) الخيانات الفردية لا تنتهي… لكن المجتمعات تتعلم احتواءها
كل حركة تحرر — الجزائر، فيتنام، لبنان — عرفت “أبو شبابها” الخاص.
أبو شباب… بين اللحظة والذاكرة
اليوم، يتعامل الفلسطينيون مع قصة أبو شباب كجرح مفتوح، وكحدث استثنائي يثير الغضب والأسئلة.
لكن حين نعود إلى التاريخ نكتشف حقيقة مرة:
المجتمعات المقاومة دائمًا تنجب من يقاتل العدو… ومن يخدمه.
هذا ليس خللاً في المجتمع، بل نتيجة طبيعية لاحتلال طويل، وضغط قاسٍ، وحصار شامل.
السؤال ليس: لماذا ظهر أبو شباب؟
بل: كيف نمنع ظهور نسخة جديدة منه؟
هنا يصبح النقاش متعلقًا:
- بإعادة بناء الثقة داخل المجتمع
- بمواجهة الفقر والهشاشة
- بتقوية الانتماء الوطني
وبإغلاق ثغرات الاحتلال التي يتسلل منها العملاء
حين تتشابه الوجوه عبر التاريخ
عندما ننظر إلى قصة أبو شباب وحدها، نراها صادمة، غريبة، مؤلمة. لكن عندما نضعها داخل السياق التاريخي، نكتشف أننا أمام نسخة حديثة من نمط بشري قديم:
- الروماني الذي قاتل قبيلته
- الجزائري الذي قاتل الثوار
- اللبناني الذي حرس مواقع الاحتلال
- الفلسطيني الذي اعتقد أن العمل للعدو سيحميه أو يرفع شأنه
إنهم وجوه مختلفة لنفس الظاهرة. وجوه تعيد إنتاج الخيانة كأنها قدر لا يتوقف، ما دام الاحتلال قائمًا والانقسام ممكنًا.
أبو شباب ليس الأول… لكنه تذكير صارخ بأن الاحتلال لا يعيش فقط على السلاح، بل على ضعف البشر.





