الدولة العميقة: المفهوم والجذور والخصائص

ملخص :
يُعد مفهوم الدولة العميقة من أكثر المفاهيم غموضًا وإثارة للنقاش في الفكر السياسي الحديث، فعلى الرغم من شيوع استخدامه خلال العقدين الأخيرين، لا يزال يفتقر إلى تعريف جامع مانع، الأمر الذي حدّ من وضوحه الأكاديمي، وقد برز المصطلح بقوة في النقاشات المرتبطة بالأنظمة الاستبدادية ومحاولات تفسير استمرارية النفوذ غير المعلن داخل مؤسسات الدولة، وفي هذا السياق، يسعى هذا التقرير إلى تسليط الضوء على مفهوم الدولة العميقة وفهم أبعاده المختلفة والإحاطة بأهم خصائصه.
تعدد التعريفات وتشابك المفاهيم
لم يتوصل المتخصصون إلى تعريف موحّد لمفهوم الدولة العميقة، كما يتقاطع مع مصطلحات أخرى مثل: "الدولة الموازية"، و"الدولة داخل الدولة"، و"حكومة الظل"، ويرى الباحث، باتريك أونيل، أن الإشكال الأساسي في تحليل المفهوم يعود إلى طبيعته الفضفاضة، فضلاً عن الاستخدام العفوي وغير المنهجي له لوصف أنشطة سياسية غير شفافة، ويشير إلى أن معظم الدراسات ركزت على حالات فردية، ما يصعّب بناء تعميمات قابلة للتطبيق في الدراسات المقارنة.
مقاربات متعددة لتعريف الدولة العميقة
تتباين تعريفات الدولة العميقة تبعًا للزاوية التي ينطلق منها الباحثون، فهناك من يراها شبكة من المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية تهيمن عليها مجموعات أو لوبيات نافذة تسعى إلى حماية مكاسبها غير المشروعة، بما يهدد المسار السياسي ويقوضه.
ويعرّفها آخرون بأنها بنية شديدة التعقيد والتداخل، تخترق مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، بحيث تزرع أذرعها في كل مساحة مؤثرة، ما يجعل تفكيكها أو اختراقها أمرًا بالغ الصعوبة، وقد يؤدي المساس بها إلى تفكك كيان الدولة ككل.
أما دانا بريست وويليام أركين فيركزان على طابعها الخفي، ويصفانها بأنها "دولة غير مرئية وسرية توازي الحكومة الشرعية المعلنة"، وفي الاتجاه ذاته، يرى جيمس كوربت أن مصطلحات الدولة العميقة، والفرق السرية، وحكومة الظل تشير جميعها إلى ظاهرة واحدة تتمثل في "وجود مجموعة غير منتخبة وغير خاضعة للمساءلة تعمل خلف الحكومة الرسمية لتحقيق أهدافها الخاصة".
بينما يعرّف جورج فريدمان الدولة العميقة بأنها قوى تعمل تحت سقف الدستور وخارجه في آن واحد، وتتمتع بقدرة أعمق وأقوى على التحكم في الدولة من النظام السياسي ذاته، نظرًا لتغلغلها في أجهزة الدولة وامتلاكها أدوات تعطيل قرارات الرؤساء والبرلمانات المنتخبة.
اتساع دائرة الفاعلين
يبرز في بعض التعريفات اتساع نطاق مكونات الدولة العميقة، إذ يوضح سينا أودوغبيمي أنها لا تقتصر على العسكريين أو الأجهزة الأمنية، بل تشمل أفرادًا وجماعات في المجتمع المدني، وشخصيات غير معروفة داخل مؤسسات الدولة، ويتقاطع هذا الطرح مع ما ذهب إليه باحثون آخرون أضافوا القضاء، والنخب الإعلامية والثقافية، وطبقة رجال الأعمال، وتحالف اجتماعي عميق يضم شرائح متعددة من المجتمع.
وفي مقاربة مختلفة، يعرّف هيلمكي وليفيتسكي الدولة العميقة بأنها مجموعة من القواعد غير المكتوبة والمتوافق عليها اجتماعيًا، والتي تُنشأ وتُطبق خارج القنوات الرسمية.
تعريف إجرائي جامع
يمكن تعريف الدولة العميقة بأنها كيان إداري حكومي غير منتخب، قد يتشكل من جهاز واحد أو عدة أجهزة سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو إعلامية، يعمل على التحكم في مصير الدولة والتأثير في مؤسساتها وقراراتها الرسمية بما يخدم مصالحه الخاصة، سواء توافقت هذه المصالح مع أهداف الدولة أم تعارضت معها.
الجذور التاريخية للمفهوم
تُعد ظاهرة الدولة العميقة قديمة وحديثة في آن واحد، ويتفق عدد من الباحثين على أن تركيا تمثل البيئة الأولى التي تبلور فيها المفهوم، إذ ارتبط بتطورات السياسة التركية الحديثة، ولم يكتسب المصطلح رواجه الواسع إلا في تسعينيات القرن الماضي، خاصة عقب فضيحة "سوسورلوك" عام 1996، التي كشفت عن علاقات تواطؤ بين مسؤولين حكوميين وأجهزة أمنية وعسكرية وعصابات إجرامية.
ويرجع بعض الباحثين نشأة الدولة العميقة إلى جمعية الاتحاد والترقي، وأنشطتها بين 1913 و1918، إضافة إلى ارتباط المصطلح بتاريخ الجماعات السرية والتنظيمات شبه العسكرية في أواخر العهد العثماني، واستمر حضوره في الدولة التركية الحديثة، خاصة بعد انقلاب 1960، وانتقل المفهوم لاحقًا إلى دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، ثم إلى الاتحاد السوفياتي السابق، حيث وُصفت أجهزة الاستخبارات بأنها "دولة داخل دولة"، وفي العصر الحديث، عادت الظاهرة إلى الواجهة في الولايات المتحدة خلال فترة حكم دونالد ترامب، وانتشرت كذلك في دول مثل إيران وباكستان.
الخصائص والسمات المميّزة للدولة العميقة
الخصائص الأساسية
- السرية والغموض: تعمل بعيدًا عن الإطار العلني، مع بقاء آثار تدخلها واضحة في الواقع السياسي والإداري.
- حماية المصالح الذاتية: تسعى إلى ضمان مصالحها الخاصة حتى وإن تعارضت مع الصالح العام.
- تشابك المصالح والتنظيم الشبكي: تعتمد على بنية مترابطة يصعب تفكيكها، تقوم على تبادل المنافع بين أطرافها.
- ازدواجية العمق:
- العمق الزمني: الحفاظ على الوضع القائم وإفشال محاولات التغيير.
- عمق التحالفات: التغلغل الأفقي والعمودي داخل مؤسسات الدولة.
السمات البنيوية
- استقلالية الأجهزة الأمنية: عمل الأجهزة الأمنية خارج نطاق الرقابة المدنية.
- منطق الوصاية: تقديم الذات كحارس للقيم الوطنية في مواجهة التهديدات.
- عقلية المؤامرة: افتراض وجود خطر دائم لتبرير الإجراءات الاستثنائية.
- الزبونية وبناء الولاءات: إقامة علاقات نفعية مع فاعلين داخل الدولة وخارجها.
- الريع والهيمنة الاقتصادية: استغلال النفوذ لتحقيق مكاسب مالية غير مشروعة.
- استخدام العنف عند الضرورة: اللجوء إلى القوة في حالات استثنائية تحت ذريعة حماية الأمن القومي.
أدوات السيطرة والتأثير
تعتمد الدولة العميقة على أدوات متعددة لتحقيق أهدافها، أبرزها: تدخل المؤسسة العسكرية في الإدارة والاقتصاد، واستخدام الجهاز البيروقراطي لتعطيل الإجراءات، وتوظيف الإعلام لتوجيه الرأي العام، واللجوء إلى الخداع أو العنف عند الضرورة.
علاقة الدولة العميقة بالدولة الرسمية
تختلف الرؤى حول العلاقة بين الدولة والدولة العميقة، فبينما يرى بعض الباحثين أنهما كيان واحد، يرى آخرون أن الدولة العميقة تتفوق على الدولة وتحولها إلى أداة لتنفيذ مخططاتها، وعادة ما تكون العلاقة عكسية، إذ يفضي ضعف الدولة إلى تعاظم نفوذ الدولة العميقة، والعكس صحيح.
تمثل الدولة العميقة كيانًا خفيًا يسعى إلى التحكم في أجهزة الدولة وقراراتها لتحقيق مصالحه الخاصة، ويحدد توافق هذه المصالح أو تعارضها مع مصلحة الدولة ما إذا كانت الظاهرة إيجابية أو سلبية، غير أن التجارب التاريخية تشير إلى أن الجانب السلبي هو الغالب، فيما يبقى التوافق بين مصالح الدولة والدولة العميقة حالة نادرة.





