الفوضى الخلّاقة.. ماذا نعرف عنها؟

ملخص :
يُعدّ مصطلح "الفوضى الخلّاقة" أحد أبرز المفاتيح المفاهيمية التي أنتجها العقل الاستراتيجي الأمريكي في مقاربته للقضايا الدولية، فقد جرى تطوير هذا المصطلح بعناية من قبل النخب الأكاديمية وصنّاع القرار في الولايات المتحدة، ليجمع بين مفهوم الفوضى المرتبط تقليديًا بعدم الاستقرار والاضطراب، ومفهوم "الخلق" أو "البناء" الذي يوحي بالإيجابية والتجديد، غير أن هذا الدمج لا يخلو من مقاصد تضليلية، إذ ينطوي في جوهره على أبعاد خبيثة تستهدف إعادة تشكيل المجتمعات وفق مصالح القوى المهيمنة.
ويكيليكس تكشف آليات جمع المعلومات وتوظيفها
كشفت تسريبات ويكيليكس (WikiLeaks) عن أن المؤسسات الأمريكية العالمية، وفي مقدمتها وزارة الخارجية والأجهزة الاستخبارية ومراكز الأبحاث، تعتمد على جمع كمٍّ هائل من المعلومات المتعلقة بالخلافات المحلية داخل الدول، بما يشمل أطراف النزاع، ورموزه، وأسبابه، وحجمه، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يمتد ليشمل دراسة تركيبة القوى الاجتماعية، ومطالبها، وطبيعة الأنظمة السياسية، وقدرتها أو عجزها عن الاستجابة لتلك المطالب.
وقد طوّرت الولايات المتحدة هذا النهج ليصبح نظرية تعامل استراتيجي تُغنيها، في كثير من الأحيان، عن اللجوء إلى التدخل العسكري المباشر، الذي بات خيارًا أخيرًا، خاصة بعد التجربة الفيتنامية وما خلّفته من تداعيات سياسية وعسكرية.
الجذور التاريخية للمفهوم: من ماهان إلى هنتنغتون
يشيع الاعتقاد بأن مصطلح الفوضى الخلّاقة وليد مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، إلا أن جذوره تعود إلى عام 1902، حين طرحه المؤرخ الأمريكي ألفرد تاير ماهان (Alfred Thayer Mahan)، لاحقًا، أعاد المفكر الأمريكي مايكل ليدين (Michael Ledeen) إحياء المفهوم عام 2003، بعد أحداث 11 سبتمبر بعامين، تحت مسميات مثل "الفوضى البنّاءة" أو "التدمير البنّاء".
ويعني هذا التوجّه، في جوهره، الهدم أولًا ثم إعادة البناء، عبر إشاعة الفوضى وتدمير البُنى القائمة، تمهيدًا لإعادة تشكيلها بما يتوافق مع مخططات تخدم مصالح القوى المتنفذة، ويُعدّ المفكر الأمريكي اليميني صامويل هنتنغتون (Samuel P. Huntington)، صاحب نظرية "صراع الحضارات"، من أبرز من تناولوا هذا المفهوم، حيث لقيت أطروحاته اهتمامًا واسعًا لدى مراكز الدراسات والبحوث التي أسهمت في تطوير النظرية وتعميقها.
الفوضى كمدخل لإعادة بناء المجتمعات
تقوم نظرية الفوضى الخلّاقة على افتراض مفاده أن المجتمع عندما يبلغ أقصى درجات الفوضى، المتمثلة في العنف المفرط، وسفك الدماء، وإشاعة الخوف على نطاق واسع، يصبح مهيأً لإعادة بنائه بهوية جديدة، ووفق هذا التصور، فإن الفوضى ليست حالة عشوائية، بل أداة مدروسة لإنتاج واقع سياسي واجتماعي جديد.
الفوضى الخلّاقة: فراغ الاستقرار ومحرّك التغيير
تُعرَّف الفوضى الخلّاقة بوصفها حالة من الفراغ والفجوة التي تنعكس على استقرار المجتمع وتماسكه، نتيجة رغبة في التغيير تغذّيها تطلعات فاعلين يسعون إلى حراك شامل، خصوصًا على المستويين السياسي والاقتصادي، وغالبًا ما تحظى هذه الفوضى بدعم وتمويل خارجي، حتى وإن كانت دوافع التغيير داخلية، إذ يتم استثمارها وتوجيهها بما يخدم مصالح القوى الغربية الساعية للحفاظ على نفوذها.
وفي هذا السياق، يصف هنتنغتون الفوضى الخلّاقة بأنها "الفجوة التي يشعر بها المواطن بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون"، وهي فجوة ينعكس اتساعها أو ضيقها على مستوى الاستقرار في المجتمع.
أدوات الفوضى الخلّاقة: عناصر متعددة لغايات الهيمنة
تعتمد الفوضى الخلّاقة على مجموعة من العناصر المتداخلة، تختلف قابليتها للتوظيف من بلد إلى آخر، ومن أبرزها:
- أولًا: تفكيك النسيج الاجتماعي
من خلال دراسة التركيبة الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإثنية، واستغلال نقاط الضعف والفوارق القائمة، وتضخيمها وصولًا إلى التوتر والصراع.
- ثانيًا: الانقلابات والاغتيالات وتفريغ القيادة
عبر تصميم انقلابات ظاهرة وخفية، وتنفيذ اغتيالات تطال القيادات الوطنية، ورشوة المتنفذين في أجهزة الحكم ووسائل الإعلام، والتركيز على شخصيات بعينها وإزاحة خصومها، بهدف إضعاف النظام أو تفكيكه بالكامل.
- ثالثًا: الإفساد التنموي والاقتصاد التابع
من خلال تحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد تابع، وفقدان القدرة الإنتاجية، وتحويل الدولة إلى سوق استهلاكية تعتمد على الخارج، مع نهب الموارد الطبيعية، ويترافق ذلك مع خلق طبقة من رجال الأعمال المزيفين الذين يستحوذون على القطاع العام ويعيدون توجيه الاقتصاد بما يخدم الاستيراد على حساب الإنتاج المحلي.
- رابعًا: ضرب التكتلات الإقليمية
محاربة أي تجمع إقليمي يخدم مصالح دول المنطقة، والسعي إلى تفكيكه عبر الحروب الداخلية، مستغلين أمراضًا وطنية ساهموا هم أنفسهم في خلقها.
- خامسًا: اختراق المشهد الثقافي
من خلال تمويل مثقفين وفنانين وإعلاميين، وبث فوضى ثقافية تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
- سادسًا: تجنيد النخب المتخصصة
عبر استقطاب دارسين في الغرب، وتوظيفهم لاحقًا في مؤسسات دولية، ثم الدفع بهم إلى مواقع قيادية في بلدانهم.
- سابعًا: اختراق الأجهزة الحساسة
من خلال تجنيد عناصر داخل الأجهزة الأمنية وتوجيهها لخدمة مصالح القوى الخارجية.
مراحل تنفيذ الفوضى الخلّاقة
تمر عملية تطبيق الفوضى الخلّاقة بأربع مراحل متتابعة:
- المرحلة الأولى: خلخلة حالة الجمود والتصلب في النظام المستهدف.
- المرحلة الثانية: إدخال النظام في حالة من الحراك والفوضى المربكة.
- المرحلة الثالثة: توجيه وإدارة الفوضى للوصول إلى الوضع المرغوب.
- المرحلة الرابعة: إخماد الفوضى وتثبيت الواقع الجديد، بالاستناد إلى القوة العسكرية والترسانة الأمريكية المنتشرة في المنطقة.





