من مقطع مجتزأ إلى رواية مضلِّلة: كيف أُخرج فيديو غرفة عمليات ردع العدوان من سياقه؟
تحقق// علا القارصلي

ملخص :
الادعاءات المنتشرة على السوشال ميديا
مع تصاعد التوترات العسكرية شمال سوريا، ولا سيما في مناطق التماس مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أعادت حسابات على وسائل التواصل نشر الفيديو على أنه يوثّق معارك حلب الأخيرة مع قسد، وسرعان ما التقطت حسابات معارضة تفصيلًا تقنيًا بدا، للوهلة الأولى، مثيرًا للريبة: التاريخ الظاهر على شاشة غرفة العمليات هو 8 تموز 2000.
هذا التاريخ استُخدم كدليل على أن الحكومة السورية تروّج لمشاهد قديمة أو مفبركة على أنها حديثة، وذهبت بعض المنشورات إلى اتهامها صراحة بالتزوير.
في المقابل، لم يكن الخطاب المؤيد أكثر مهنية إذ اكتفى بتبرير الخطأ التقني بالقول إن ظروف المعارك لا تسمح بضبط التاريخ والوقت، دون محاولة جديّة للتحقّق من أصل المادة المصوّرة.
المفارقة أن الطرفين، على اختلاف موقفيهما السياسيين، وقعا في الخطأ نفسه: التعامل مع الفيديو بوصفه مادّة مستقلّة بذاتها، لا جزءًا من عمل أطول، لم يسأل أحد:
- هل المقطع مأخوذ من بث مباشر أم من عمل مُنتَج؟
- هل نُشر سابقًا؟
- هل يحمل علامات تدل على كونه جزءًا من فيلم أو تقرير وثائقي؟
هذه الأسئلة، التي تُدرَّس في أساسيات التحقّق غابت تمامًا عن النقاش العام، لتحلّ محلها استنتاجات سريعة تخدم الموقف السياسي لا الحقيقة.
كيف ساهم الطرفان في التضليل؟
ساهم الطرفان في التضليل، وإن اختلفت دوافعهما، من خلال التعامل مع المقطع بوصفه أداة لإثبات موقف سياسي مسبق لا مادة تحتاج إلى تحقق مهني، فالحسابات المعارضة سارعت إلى التقاط تفصيل تقني كالتاريخ الظاهر على الشاشة، وجرى تضخيمه وتحويله إلى اتهام سياسي شامل للحكومة السورية بالتزوير، دون بذل أي جهد للتحقق من مصدر الفيديو أو العودة إلى العمل الأصلي الذي اقتُطع منه، ما جعل الاستنتاج يسبق البحث.
أما الحسابات المؤيدة وقعت في خطأ معاكس لا يقل خطورة، إذ دافعت عن المقطع بعاطفة واضحة، وقدّمت تبريرات عامة وغير موثّقة من قبيل أن ظروف المعارك لا تسمح بضبط التاريخ والوقت، من دون أن تضع أمام الجمهور المعلومة الأهم، وهي أن الفيديو جزء من فيلم وثائقي طويل أعدّته قناة الإخبارية السورية حول عملية (ردع العدوان) وأن المقطع يظهر بعد مرور نحو ساعة و12 دقيقة من زمن الفيلم.
وبهذا، لم يقدّم أي من الطرفين الحقيقة كاملة، بل اختار كل منهما ما يخدم روايته، فكانت النتيجة جمهورًا يتلقّى روايتين متناقضتين مبنيتين على اجتزاء وتبرير، لا على تحقق وتدقيق، وحقيقة تائهة بين اتهام متسرّع ودفاع غير موثّق، في مثال واضح على كيف يمكن لتوجه السياسي أن يتحوّل إلى شريك مباشر في صناعة التضليل.
التاريخ الذي يظهر بالفيديو
التاريخ (8 تموز 2000) الذي أثار موجة الاتهامات لا يمكن اعتباره دليل تزوير بحد ذاته، هناك عدة تفسيرات محتملة، جميعها معروفة في مجال الإنتاج التلفزيوني والعسكري:
- إعداد تقني غير مُحدَّث: كثير من شاشات أنظمة المراقبة أو التسجيل داخل غرف العمليات لا تُضبط بشكل دوري، خاصة إذا لم يكن الغرض من التسجيل هو البث المباشر.
- توثيق عملية سابقة: الفيلم يشرح عملية عسكرية مضت، وليس بالضرورة أحداثًا جارية لحظة العرض، ما يجعل التاريخ الظاهر غير مرتبط بزمن النشر.
- مشاهد معاد تمثيلها: في الأعمال الوثائقية العسكرية، تُعاد أحيانًا تمثيل بعض اللحظات لأغراض الشرح والتوثيق، مع الاحتفاظ بالبيئة الحقيقية، دون التركيز على التفاصيل التقنية كالتاريخ.
أي من هذه الاحتمالات كان كافيًا لتبرير التاريخ، لكن السوشال ميديا فضّلت القفز مباشرة إلى الاتهام والدفاع.
الفرق بين ردع العدوان ومعارك قسد
عملية ردع العدوان كما وردت في الفيلم الوثائقي الذي أعدّته قناة الإخبارية السورية، ليست حدثًا آنيًا أو معركة عابرة، بل عملية عسكرية مخططة ذات أبعاد استراتيجية، جرى التحضير لها ضمن سياق أمني وعسكري محدد، وهدفت بالدرجة الأولى إلى تأمين مناطق تُعد حساسة من حيث الموقع والوظيفة العسكرية، الفيلم لا يقدّم هذه العملية بوصفها مجرد اشتباكات، بل يعرضها كمنظومة متكاملة من التخطيط والتنفيذ والتقييم، حيث تظهر غرف العمليات، وآليات اتخاذ القرار، وتسلسل الأوامر، إلى جانب مقابلات مع الرئيس أحمد الشرع وعدد من الضباط القادة الذين شاركوا في العملية، والذين شددوا في حديثهم على الانضباط العسكري بوصفه عنصرًا حاسمًا في نجاح أي عمل ميداني، وعلى ضرورة تجنّب استهداف المناطق المدنية أو التعامل مع السكان المحليين كطرف في الصراع، بل باعتبارهم جزءًا من النسيج الاجتماعي الذي يجب حمايته، ولفهم سياق المقطع المجتزأ يتطلب مشاهدة الفيلم كاملًا، حيث تتضح الخلفيات السياسية والعسكرية للعملية، وتُفهم اللغة المستخدمة في غرفة العمليات على أنها جزء من سرد توثيقي لمرحلة سابقة، لا تسجيلًا حيًا لمعركة جارية.
من هنا، فإن الخلط الذي وقع على وسائل التواصل الاجتماعي بين عملية ردع العدوان وبين المعارك اللاحقة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) يعكس غيابًا واضحًا للتمييز بين سياقات عسكرية مختلفة، لكل منها ظروفها وأطرافها وتوقيتها، ويؤكد كيف يمكن لاجتزاء مشهد واحد، دون العودة إلى مصدره الأصلي أو فهم الإطار الذي أُنتج ضمنه، أن يحوّل مادة توثيقية إلى أداة تضليل، سواء استُخدمت لاتهام السلطة بالتزوير أو للدفاع عنها بتبريرات تقنية لا تستند إلى تحقق.





